دوافع النجاح وتجاوز الفشل
السُّؤَالُ
ـما هو الدافع لدى بعض الناس لمقاومة الفشل؟ـ
الْجَوَابُ
الحمد لله
إن اسم الفشل، أيها السائل الكريم، كاف لكي ننفر منه، ونسعى للنجاح، بغض النظر عن مكسب مادي يتحصل عليه المرء من نجاحه؛ فالفشل اسم نقص وذم، والنجاح اسم كمال ومدح:
وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئاً كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ
إن الفشل والنجاح، ثنائية منقطعة متصلة في الوقت نفسه، قد يبدو منها التناقض في أول وهلة، ولكنها في حقيقتها متلاحمة متشابكة في تنظير الفكر، وشواهد التجربة والواقع، وإن كان لكل منهما معرِّفاتُه التي من خلالها نفهم الدوافع التي تحملنا على سلوكها إقبالا أو إحجاما:
فالنجاح سنة في هذا الكون أراد الله تعالى أن تكون غاية كل مؤمن، وخلق الكون كله مسخرا لتحقيق تلك الغاية، فقد أمر سبحانه الإنسان بالإيمان، وطلب منه الالتزام بالعبودية التي لا ينفك عنها، وجعل ذلك غاية الخلق حين قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/٥٦، وعد سبحانه من مات على ذلك الطريق هو الناجح وغيره هو الخاسر: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) آل عمران/١٨٥
فالنجاح إذا قصة الحياة، وغاية خلق الله تعالى لهذا الكون، وما أرسلت الرسل، وما أنزلت الكتب إلا لدعوة الناس إلى النجاح الحقيقي عند الله سبحانه، وقد وضع سبحانه من محفزات النجاح في الدنيا والآخرة ما يأخذ بأيدي السالكين إليه، وذلك:
- حين كتب النعيم المقيم الخالد لمن نجح في اختبار الإيمان والعبودية، والتزم طريقهما ومات عليهما: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ. إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) الحاقة/١٩-٢٤
- وحين صور القرآن حال أولئك الذين رفضوا سبيل النجاح، وأصروا على سبيل الغواية والفشل، ووصف حالهم يوم تعرض النتائج، ويُعلم الناجح من الخاسر: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) الحاقة/٢٥-٢٩
- وحين كتب سبحانه الحياة الطيبة في الدنيا لمن يسلك سبيل النجاح، فقال عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النحل/٩٧
قال ابن كثير - رحمه الله -:
" هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إنها هي السعادة، والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله. " تفسير القرآن العظيم " (٤ / ٦٠١) .
هذا هو المنهج الذي يعيش وفقه المسلم ويفهم من خلاله الحياة، ومن انطلق من هذا الفهم فإنه لا بد سيقوده إلى النجاح والتفوق في أمور دينه ودنياه، لأن المؤمن يعلم أنه مطالب بإقامة الحق والعدل في هذه الدنيا لقول الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد/٢٥، ونجاح الفرد جزء من نجاح الأمة في تحقيق العدل والقسط.
ولأن المؤمن يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلًا أَن يُتقِنَهُ) رواه أبو يعلى (٧ / ٣٤٩) وحسنه الألباني بشواهده في " السلسلة الصحيحة " (١١١٣) ، وإتقان العمل ركن من أركان النجاح.
هذه الدوافع كلها هي التي تحفز المؤمن لبلوغ أقصى درجات النجاح، فهو يسعى دائما في تنمية مواهبه، واكتساب المهارات النافعة، وتطوير ذاته على المستوى الثقافي والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي، ويعلم أن المؤمن العامل الناجح خير من القاعد المحبط الكسول، الذي لا يجني من كسله سوى خسارة الدنيا والدين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) . رواه مسلم (٢٦٦٤) .
قال ابن القيم رحمه الله: " فتضمن هذا الحديث الشريف أصولا عظيمة من أصول الإيمان..، ومنها:
أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع ... ، ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين به، ليجتمع له مقام إياك نعبد وإياك نستعين، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونته؛ فأمره بأن يعبده وأن يستعين به.
ثم قال: (ولا تعجز) ؛ فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته بالله، فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله، ضد العاجز؛ فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه؛ فإن فاته ما لم يُقَدَّرْ له، فله حالتان: حالة عجز، وهي مفتاح عمل الشيطان؛ فيلقيه العجز إلى لو، ولا فائدة في لو ههنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي: النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفت ولم يغلبه عليه أحد؛ ... فلهذا قال: (فإن غلبك أمر فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل) ، فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول مطلوبة، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا "
شفاء العليل (٣٧-٣٨) .
وهو بهذا الفكر يتجاوز كل عقبة وكل فشل، لا يعجزه شيء، وليس لأمانيه حدود، وليس لهمته وعزيمته نهاية.
بل يعلم أن الفشل إنما هو دليل على العمل، لأن الذي يعمل هو الذي قد يفشل، وأما القاعد المتكاسل فلا يصيب فشلا ولا نجاحا، والعمل لا بد أن يثمر النجاح يوما ولو بعد حين، فهو لذلك يتخذ من الفشل خطوة نحو النجاح، يتنبه به على مواطن الخلل والنقص، ويحاول تجاوزها وإصلاحها، فيعود أقوى وأصلب مما كان عليه من قبل، حتى يصيب النجاح الذي يسعى إليه.
وما باب التوبة الذي فتحه الله تعالى للذين يخطئون ويفشلون إلا حافز آخر لتجاوز مراحل الفشل إلى مراقي النجاح، خاصة إذا استفاد المقصر من تجربته، حتى قال بعض السلف: " معصية تورث ذلا وانكسارا خير من طاعة تورث عجبا واستكبارا ".
وأخيراً، ومع كل هذه الحوافز والدوافع نحو النجاح وتجاوز الفشل لا يبقى عذر لقاعد أو متكاسل أو محبط، فالسبيل ميسر، إنما يَطلُبُ منك شيئا من العزيمة والإرادة والحكمة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى) رواه البخاري (٧٢٨٠) .
وانظر جواب السؤال رقم (٢٢٧٠٤) .
والله أعلم
الْمَصْدَرُ
الإسلام سؤال وجواب