تقدير الله للمصائب على الأطفال؛ لماذا؟
السُّؤَالُ
ـصديقتي غير مسلمة، وكنت أحاول مساعدتها كي تتعرف على الدين الحقيقي، ومن بين الأسئلة التي طرحتها علي هذا السؤال:
"أفهم الاعتقاد بأن الله يختبر، وكي أستخدم مثالك، فالأم التي ترمي بطفلها في صندوق النفايات، لأنها لم تكن تريده، فإنها تكون قد أخفقت في اختبار الحب بشكل مخز. وكذلك المرأة التي كان عندها الكثير من الحب والشوق لأن يكون عندها طفل، ثم سرقت طفلا كي تشبع رغبتها. فإنها تكون أيضا قد أخفقت في اختبارها بسبب الطريق الخاطئة التي مكنتها الحصول على طفل. أنا لا أطرح أسئلتي بخصوص الكبار الذين ارتكبوا أخطاء. لكني أسأل عن الأساس المنطقي المتعلق بالأطفال. وبعبارة أخرى، هل كان الله يختبر الصغير لأنه سمح لوالدته أن ترميه في صندوق النفايات؟ أي نوع من الاختبارات هذا؟ هل الصغير الذي يؤذيه والداه جسديا يُختبر؟ أي نوع من الاختبارات هذا؟ على ماذا يُختبر الطفل؟ كم من الآلام يستطيع أن يتحمله الطفل؟ لذلك، فأسئلتي تتعلق بالأبرياء – وليس بالمذنبين. لماذا يسمح الله لهؤلاء الأبرياء أن يتعرضوا للأذى في جميع أنحاء العالم؟؟ أنا لا أستطيع فهم ذلك".ـ
الْجَوَابُ
الحمد لله
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يُشغله شأن عن شأن، جلَّ عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير} .
والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وحجةً للناس أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى تركنا على محجةٍ بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ... وبعد:
ـ فيجب أن نعلم يا أخي أن أي مؤمن بوجود الله، وكونه ربا خالقا ولو كان هذا المؤمن بوجود الرب من غير المسلمين، يعلم أن هذا الرب يتميز عن خلقه من جميع الوجوه فليس هناك مجال للمشابهة والمقارنة بينه وبين خلقه ولذا يقول الله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) الشورى/١١.
ـ وإذا كان المالك للشيء في الدنيا يتصرف فيه كيف شاء دون أن يحاسبه الخلق على ذلك لأن هذا الشيء هو ملكه؛ فإن الله الخالق الذي ليس كمثله شيء له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، ونوقن نحن المسلمين أن ربنا الذي خلقنا له الحكمة البالغة التي لايمكن أن يتطرق إليها أدنى نقص بأي وجه من الوجوه،بل وكل مؤمن بوجود الرب وقد رضي به ربا يلزمه أن يؤمن بذلك وإلا فهو يؤمن برب ناقص ومعلوم عند من له أدنى عقل وإيمان أن الرب لا يمكن أن يكون ربا حتى يكون كاملا من كل وجه بعيدا عن أي نقص، وإلا فهو ليس برب على الحقيقة. ونحن بدورنا ولأننا خلق من خلق الله، لايمكن أن نصل إلى إدراك شيء يسير من حكمته إلا بعد تعليمه لنا فما علّمناه من حِكم أفعاله فهمناه، وصدقناه. وما كتمه عنا مما اختص بعلمه آمنا به وعلمنا أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة عظيمة،لأنه هو الحكيم العليم، ولايمكن بحال أن يتطرق إلى قلوبنا احتمال أن نحاسبه على ما يفعل في ملكه وخلقه، وإلا فقد تعدينا على مقام الربوبية وتعدينا طورنا وزعمنا أن بإمكاننا أن نعلم ما يعلمه سبحانه، وهذا لايمكن أن يقوله إلا ملحد لايؤمن بوجود رب أصلا ـ نعوذ بالله من ذلك ـ.
ـ وإذا كنا نقر لأهل التخصص في تخصصهم وهم من البشر دون أن نناقشهم في ذلك كالأطباء والمهندسين وغيرهم، وذلك لأن مستوانا التعليمي لا يسمح لنا بفهم كل ما يذكرونه، فلأن نقر للعليم الذي لا يغيب عن علمه شيء بأن ما يتصرف به في شؤون خلقه ونحن لا نفهمه أنه هو الحكمة والصواب ولاشك؛ من باب أولى وأحرى.
ـ إننا نحن البشر نعد من الحكمة أحيانا أن نفعل بعض الأمور المكروهة لنا لما فيها من الفائدة ولو لم نفعلها لأصبحنا متهمين بنقص الحكمة والعقل، فمثلا المريض الذي يخاف على نفسه الهلاك ويعلم أن شفاءه بإذن الله إذا شرب هذا الدواء، فإن الحكمة هي أن يشرب ذلك الدواء ولو كان مُراً، ولو لم يشربه لعد تقصيرا منه ونقصا في عقله، وهكذا في أمور كثيرة في حياتنا نفعلها ونحن لها كارهون لما يترتب عليها من المصالح.
ولله عز وجل المثل الأعلى، وليس هناك مجال لقياسه على خلقه، فهو يفعل سبحانه في ملكه بعض ما يبغضه لما يترتب على ذلك من الحكم العظيمة؛ التي نعجز عن إدراكها أو كثير منها، وقد تتضح لنا بعض الحكم اليسيرة، وذلك من رحمة الله بعباده المؤمنين أن يريهم بعض حكمه في الدنيا لتطمئن قلوبهم، فمثلا لو أردنا أن نلتمس بعض ما يمكن أن نفهمه من بعض الحكم من خلق الله للصبي ثم وفاته بعد ذلك، فربما لو عاش هذا الصبي لارتكب الموبقات والمعاصي العظيمة، فأوجب له ذلك الخلود في النار أدخولها مدة طويلة، أو إغواء غيره كأبويه كحال الغلام الذي قتله الخضر في قصته مع موسى عليه السلام (وهي في سورة الكهف) .
كما أنه ربما لو عاش هذا الصبي لتعرض لمتاعب كثيرة يكون الموت بالنسبة لها رحمة من الله.
وأيضا فلو خلقه معاقا مثلا فربما منعته هذه الإعاقة عن كثير من المعاصي التي لولاها لفعل هذه المعاصي فعوقب عليها يوم القيامة.
ـ كما أنه ليس بالضرورة أن يكون كل مرض أو إعاقة عقوبة، بل قد تكون امتحانا لوالديه، فيكفرالله عنهم من سيئا تهما، أو يرفع في درجاتهما في الجنة إذا صبرا على هذا البلاء، ثم إذا كبر هذا الصبي يمتد الامتحان له، فإن صبر مع الإيمان فقد أعد الله للصابرين أجرا عظيما لايمكن أن يقدر ولا يحسب، فقال سبحانه (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب) الزمر/١٠، ونحن المسلمين لا تنتهي حياتنا بوفاتنا بل نحن نؤمن أن وراء الموت جنة ونارا، هي التي فيها الحياة الحقيقية، فأهل الخير يجدون جزاء ما عملوه من الخير في الدنيا بانتظارهم عند الله، وأهل الشر كذلك، فلا يمكن أن يستوي الطيب والخبيث، وهكذا فمن ابتلي وصبر لايمكن أن يضيع هذا الصبر عند الله، بل ربما يتمنى الذي لم يصب في الدنيا بمثل مصيبته أن يكون قد أصيب بمثل مصابه لما يرى له من المكانة العظيمة. والأدلة على هذا كثيرة في الكتاب والسنة فمنها:
قوله سبحانه (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة/١٥٥.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " رواه مسلم ٢٩٩٩
وبهذا يتبين لك أن المصائب التي تجري على الأبرياء في نظرنا، بل وعلى جميع الناس ليس بالضرورة أن تكون عقوبة؛ بل قد تكون رحمة من الله لكن لأن عقولنا قاصرة فإننا في كثير من الأحيان نعجز عن فهم حكمة الله في ذلك، فإما أن نكون مؤمنين بأن الله أعدل منا وأحكم وأعلم وأرحم بخلقه، فنسلّم له، ونرضى ونحن مقرين بعجزنا لمعرفتنا بحقيقة أنفسنا، وإما أن نتبجح بعقولنا القاصرة ونغتر بأنفسنا الضعيفة ونأبى إلا محاسبة الله والاعتراض عليه، وهذا لا يمكن أن يخطر بقلب أي مؤمن بوجود ربٍ خالقٍ مالك حكيم كامل من كل وجه. ولو فعلنا فقد عرضنا أنفسنا لغضب الله ومقته، ولن يضر الله شيئا.
ولذا فقد نبه الله على ذلك بقوله سبحانه: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء/٢٣
ـ كما أن من ضعف الإنسان وقصر نظره؛أن يقتصر على رؤية المصائب ولا يتفطن لما فيها من الفوائد، ولا ينظر في بقية النعم الأخرى له وفيما حوله، فنِعم الله على بني البشر لا تقارن بمقدار ما يصيبهم به من المصائب.ولو كان هناك إنسانٌ كثير الإحسان ولكنه لا يحسن أحياناً فإن نسيان إحسانه يعد من الجحود والنكران، فكيف بالله سبحانه وله المثل الأعلى، فكل تصرفاته في الكون هي خير ولا يمكن أن تكون شراً من جميع الوجوه.
وأيضاً فإن الأنبياء والرسل هم أحب الخلق إلى الله ومع ذلك فهم أشد الناس بلاء وأكثرهم مصائب، فلماذا؟ ليس عقوبة لهم ولا لهوانهم على ربهم، ولكن لأن الله يحبهم فقد ادخر لهم كامل الأجر ليستوفوه في الجنة وكتب عليهم هذه المصائب ليزيدهم رفعة ودرجة. فهو سبحانه يفعل ما شاء كيف شاء متى شاء لا معقب لحكمه ولا راد لأمره وهو الحكيم العليم. والله أعلى وأعلم وأحكم.
تنبيه: فيما يتعلق بقولك: (صديقتي) فإنه يحرم إقامة العلاقة غير الشرعية بين الرجل والمرأة ولمزيد من التوضيح والبيان في هذه القضية الهامة عليك مراجعة فتوى رقم (٩٤٦٥) و (١٢٠٠) في الموقع.
الْمَصْدَرُ
الشيخ محمد صالح المنجد