الرد على مقولة " السماء قبلة الدعاء " وبيان اعتقاد أهل السنَّة أن الله تعالى في السماء
السُّؤَالُ
ـما رد فضيلتكم على هذا القول: أن الله تعالى لا يتحيز في مكان، إنما السماء قبلة الدعاء، ومهبط الرحمات، قال تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) ، السماء إلى فناء، تعالى الله أن يتحيز فيها، وقال عليه الصلاة والسلام: (أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط فليس فيها مكان إلا فيها ملك قائم أو راكع أو ساجد) فتعالى الله أن يتحيز بين الملائكة.ـ
الْجَوَابُ
الحمد لله
أولاً:
الكلام الوارد في السؤال هو من إنشاء أهل البدع والأهواء نفاة العلو لله الواحد القهَّار، وقد شاع بين " الأشاعرة "، وكانوا قد ورثوه عن " الجهمية ".
وأصل ذلك: أنهم أرادوا نفي علو ذات الله تعالى، وغاظهم ما يجده الناس في فطَرهم ضرورةً من توجه قلوبهم نحو السماء، ومن رفع أيديهم تجاهها، فزعموا أن " السماء قبلة للدعاء "! وأن توجه المسلمين بقلوبهم نحوها، ورفع أيديهم باتجاهها: هو توجه لقبلة الدعاء، كما يتوجهون للكعبة قبلة الصلاة! حتى روى بعض الكذَّابين نفاة الصفات عن الله تعالى في ذلك حديثاً نسبه للنبي صلى الله عليه وسلم، بلفظ: (السماءُ قِبلةُ الدعاء) !
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله:
لم أقف له على أصل، إلا ما قاله الحافظ في "نتائج الأفكار" (١/٢٥٩، ٢٦٠) في "آداب الدعاء":
"قلت: أما الاستقبال: فلم أرَ فيه شيئاً صريحاً يختص به، وقد نقل الروياني أنه يقول رافعاً بصره إلى السماء، وقد تقدم ذلك فِي حَدِيثِ عمر، وفي حديث ثوبان: " السماء قبلة الدعاء "، فلعل ذلك مراد مَن أطلق".
كذا قال! وحديث ثوبان تقدم عنده (١/٢٤٥) ، وليس فيه ما ذكر، ولا رأيتُ ذلك في كتاب من كتب السنَّة التي وقفتُ عليها، بل ظاهر كلام شارح "العقيدة الطحاوية" ابن أبي العز (ص ٣٢٧) وغيره: أن هذا الحديث المزعوم هو من قول بعض المؤولة، أو المعطلة الذين ينكرون علو الله على خلقه، واستواءه على عرشه، وما فُطر عليه الناس من التوجه بقلوبهم في دعائهم جهة العلو، فقال الشارح:
"إن قولكم: إن "السماء قبلة الدعاء": لم يقله أحدٌ من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان ... ".
"السلسة الضعيفة" (١٣/٤٤٣) .
وقد تكررت هذه العبارة "السماء قبلة الدعاء" في كتب الأشاعرة، وهو ينفون عن الله تعالى صفة العلو، والاستواء على العرش حتى ظنها كثيرون عقيدة صحيحة، والحق أحق أن يُتبَّع، ولا ينبغي التوقف في خطأ هذه العبارة، وضلال معناها.
وقد أجاب ابن أبي العز الحنفي رحمه الله على هذا القول من عدة أوجه:
"أحدها: أن قولكم: إن السماء قبلة للدعاء - لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو إن له قبلتين: إحداهما الكعبة والأخرى السماء - فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
الثالث: أن القبلة: هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء، والذكر والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون، ولذلك سميت " وجهة "، والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى " قبلة "، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى " قبلة "، لا حقيقة ولا مجازاً، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقبل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك.
ومعلوم أن التوجه بالقلب، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة، وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده" انتهى.
"شرح العقيدة الطحاوية" (ص ٣٢٧، ٣٢٨) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"إن الذين يرفعون أيديهم، وأبصارهم، وغير ذلك، إلى السماء وقت الدعاء: تقصد قلوبُهم الربَّ الذي هو فوق، وتكون حركة جوارحهم بالإشارة إلى فوق: تبعاً لحركة قلوبهم إلى فوق، وهذا أمرٌ يجدونه كلهم في قلوبهم وَجْداً ضروريّاً، إلا من غُيِّرت فطرتُه باعتقاد يصرفه عن ذلك، وقد حكى محمد بن طاهر المقدسي عن الشيخ أبي جعفر الهمذاني أنه حضر مجلس أبي المعالي – أي: الجويني - فذكر العرش، وقال: "كان الله ولا عرش"، ونحو ذلك، وقام إليه الشيخ أبو جعفر، فقال: يا شيخ دعنا من ذِكر العرش، وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا: فإنه ما قال عارف قط: "يا الله": إلا وجد في قلبه ضرورةً لطلب العلو، لا يلتفت يمنة، ولا يسرة، قال: فضرب أبو المعالي على رأسه، وقال: "حيرني الهمذاني".
فأخبر هذا الشيخ عن كل من عرف الله: أنه يجد في قلبه حركة ضرورية إلى العلو إذا قال: "يا الله"، وهذا يقتضي أنه في فطرتهم، وخِلقتهم: العلم بأن الله فوق، وقصده، والتوجه إليه: إلى فوق".
"بيان تلبيس الجهمية" (٢/٤٤٦، ٤٤٧) ، وفي (٤/٥١٨، ٥١٩) طبعة المدينة.
ثم إننا عندما نقول: إن الله تعالى في السماء ليس معنى ذلك أن السماء تحيط به، أو كما يعبر هؤلاء بأن الله ساكن السماء! تعالى الله عن ذلك.
بل نقول: إن الله تعالى في السماء يعني على السماء، وفوق السماء، مستوٍ على عرشه سبحانه وتعالى، كقول الله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الأنعام/١١. أي: على الأرض.
وللوقوف على بعض الأدلة على علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه، انظر جواب السؤال رقم (٩٩٢) و (١٢٤٤٦٩) .
ثانياً:
أما قول السائل: السماء إلى فناء، تعالى الله أن يتحيز فيها ... إلخ
فقد سبق الجواب عليه في جواب السؤال رقم (١٣١٩٥٦) .
والله أعلم
الْمَصْدَرُ
الإسلام سؤال وجواب