الرد على استشهاد الكنيسة بالقرآن على بنوة عيسى لله
السُّؤَالُ
ـقرأت استشهاد الكنيسة بآيات من القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام ابن الله، ودليلهم على ذلك قالوا: لما كان الله وحده قال تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا) ، بصفة المفرد، ولما خلق عيسى عليه السلام تغير أسلوب بعض الآيات إلى صيغة الجمع وضربوا مثلاً بالآية الشريفة:) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) و: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) وقالوا: الله تعالى تكلّم بصفة الجمع، أي بمعنى (الله وعيسى عليه السلام والروح القدس) .ـ
الْجَوَابُ
الحمد لله
"ليس في تنوع الأسلوب القرآني وإخبار الله تعالى عن نفسه مرّة بصيغة الإفراد، وأخرى بصيغة قد تستعمل في الجمع أحياناً، وفي المفرد أحياناً على وجه التعظيم ليس في ذلك دليل على بنوّة عيسى عليه السلام لله، ولا على إلهيّته، وذلك لوجوه:
الوجه الأول:
أن تنوع الأسلوب في القرآن بالجمع والإفراد كان قبل أن يخلق الله عبده عيسى عليه السلام وأمه مريم بآلاف السنين وحين خلقهما وبعد أن خلقهما، فلا أثر لوجودهما في تنوع الأسلوب، بل ذلك لأمر آخر يتبين مما يأتي:
قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) وقال: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ)
فجاء الأسلوب متنوعاً قبل أن يكون عيسى وأمه عليهما السلام، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ) إلى أن قال: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ* وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس ِ) إلى أن قال:) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ) إلى أن قال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) . وقال: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ) وقال في خليله إبراهيم عليه السلام:) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) وقال في كليمه موسى عليه السلام: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً) وقال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية، وقال: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) وقال: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ) الآيات، وأمثالها من الآيات تُنَوِّع في الأسلوب إفراداً وجمعاً في خلق عيسى ومخاطبته وقبل خلقه، ومن هذا يتبيّن أن الأسلوب لم تغيّر بعد خلق عيسى عليه السلام ليكون دليلاً على بنوّته لله أو إلهيّته بل لأمر آخر يعرف من الوجه الثاني.
الوجه الثاني: أن كل من عرف لغة العرب وأسلوبهم في التعبير يعلم أن ضمير التكلّم مثل كلمة (أنا) ، وتاء المتكلم يستعملها الفرد في الحديث عن نفسه، أما ضمير المتكلم (نحن) و (نا) فيستعملها الاثنان فأكثر، وقد يستعلمها الفرد العظيم أو المتعاظم إشعاراً بعظمته، وسياق الكلام ومقتضى الحال وما احتف بالحديث من القرائن هو الذي يرشد القارئ والسامع إلى المراد ويعين المقصود، ومن خالف في ذلك فهو إما جاهل عميت عليه الأنباء، وإما معاند يريد التلبيس وتحريف الكلم عن مواضعه، إتباعاً للهوى، ويأبى الله إلا أن يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، يكشف ذلك الوجه الثالث.
الوجه الثالث: أن القرآن كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، يفسر بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً، وقد قال تعالى فيه: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) وقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد) وقال: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فوجب على من آمن به أن يجمع بين آياته، ولزم من استدل بنصوصه أن ينصفه من نفسه، فلا يستدل ببعضه ويعرض عن بعض، وألا يلبس الحق بالباطل ليضرب بعضه ببعض بغياً وعدواناً ترويجاً للباطل كما فعل أسلافهم اليهود بالتوراة، فأنكر الله عليهم ذلك بقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الآيات.
وعلى هذا لزم من استدل بالقرآن أن يستدل به على نفي بنوّة عيسى عليه السلام لله وإلهيّته مع الله، ويثبت وحدانية الله تعالى، لما ذكر من الآيات، ولقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) الآيات. وأمثال ذلك في القرآن كثير، وإلا فليكفوا عن هذا التلاعب حتى لا يلزمهم العار، ويضحكوا العقلاء من أنفسهم ويحق فيهم المثل القائل: " ليس هذا بعشك فادرجي" اهـ
الْمَصْدَرُ
من فتاوى اللجنة الدائمة (٣/٢١٦-٢١٨) .