المحاكمات العسكرية للإخوان
ويبقى هنا سؤال: إذا كان هذا هو موقف الإخوان بوضوح, فما سر هذه المحاكمات العسكرية, والإجراءات الأمنية التي تتخذ في حق الإخوان بخصوص تنظيمات سرية تكتشف ما بين الحين والحين؟
ولكى أجيب عن هذا السؤال أود أن أسجل هنا خلاصة لقاء تم بينى وبين ضابط مهم مسئول عن الإخوان في أمن الدولة زارنى في بيتى بالقاهرة , في صيف سنة ١٩٩٥ م وكان في لقائه معى غاية في الأدب وقال لي هل عندك مانع أن أوجه إليك بعض الأسئلة لأسمع إجابتك عنها؟
قلت له: لا مانع قطو أنا رجل من مهمتى أن أتلقى أسئلة الناس وأجيب عنها.
قال: ما رأيك في المحاكمات العسكرية؟ والأحكام التي صدرت فيها؟
قلت: هل تريد رأيى بصراحة؟
قال: نعم.
قلت: الأحكام العسكرية كانت قاسية بل شديدة القسوة علي أناس لم يقترفوا جرما, ولم يمارسوا عنفا, فمن المعلوم لديكم أن الإخوان منذ خرجوا من سجون عبد الناصر إلي اليوم ولم يثبت في حقهم أنهم استخدموا العنف أو شاركوا فيه ولا لمرة واحدة.
بل أنتم – ولا شك – تعلمون الصدامات التي وقعت بين شباب الإخوان في الصعيد وشباب جماعة الجهاد. حيث يتهمون الإخوان بالتخلي عن مبدأ الجهاد والمهادنة للسلطة, والاستسلام للطواغيت..الخ.
قال: ولكن لا يزال في الإخوان جماعات تتدرب علي السلاح؟
قلت: جماعة الإخوان جماعة كبيرة وممتددة في شرائح متنوعة الشهب ولا يبعد أن يوجد فيها عشرة أو عشرون يفكرون مثل هذا التفكير إن صح ذلك, ولا يبعد أن يوجد فيها عشرة أو عشرون يفكرون مثل هذا التفكير إن صح ذلك, وأنا أحكم علي المجموع لا علي الجميع والمهم هو الاتجاه العام في الجماعة الذي تقوم عليه التربية والثقافة والتوجيه العام. وقد كان الإخوان قديما يحتاجون إلي هذا النوع من التدريب العسكرى حين لم يكن هناك تجنيد إجبارى أما في عصر التجنيد الإجبارى فكل المصريين يدخلون الجيش فلا حاجة لمثل هذا التدريب.
ثم عاد الحديث إلي الأحكام العسكرية وقلت له فيما قلت: ولماذا المحاكمات العسكرية لأناس مدنيين ليس فيهم عسكرى واحد, ثم هم لم يمارسوا أى عمليات عسكرية؟ ولم يتجهوا إلي العنف أو يجيزوه بوجه من الوجوه فيما أعلم عنهم أو عمن أعرفه منهم علي الأقل.
أعرف من الدفعة الأولي الدكتور عصام العريان أعرفه منذ كان طالبا في كلية الطب, وكان أميرا للجماعة الإسلامية وقد كان حريصا علي أن ينتقل بالطلاب من الغلو والتشدد إلي الوسطية, وكان يستعين بى وبشيخنا الغزالي علي ذلك وأعرفه بعد أن نضج وأصبح وجها إسلاميا مشرفا, له حضور واضح في المؤتمرات والندوات التي تعقد داخل مصر وخارجها وماذا ارتكب عصام العريان حتى يحكم عليه بخمس سنوات؟
وأعرف من الدفعة الثانية: الدكتور عبدالحميد الغزالي وهو أستاذ متخصص في الإقتصاد الإسلامي, ومدير لمعهد البحوث والتدريب في البنك الإسلامى للتنمية وقد جمعتنى به حلقات وندوات ومؤتمرات خاصة بالإقتصاد الإسلامي وهو يعيش بجدة منذ سنوات وليس من نشطاء الإخوان.
قال: ولكنه صار من نشطاء الإخوان بعد أن توفيت زوجته.
قلت: هو لحق! إنه عاد من جدة منذ عدة شهور فقط.
قال: ولكن الإخوان يقيمون تنظيمات مخالفة للقانون؟
قلت له: سأسلم معك بما تقول. ولكن لماذا تلجئون الإخوان المخالفة القانون؟
أنتم تعلمون أن الإخوان جماعة موجودة بلا فعل, وتنمو وتتكاثر ككل كائن حى فلماذا لا تسمحون لها بالوجود القانونى؟ أنتم سمحتم بذلك للشيوعيين والناصريين والقوميين وسائر الفئات إلا الإخوان , أليس الإخوان مصريين؟ أهم مستوردون من خارج تراب الوطن أم هم جزء منه؟
إن الصواب في ذلك: أن يسمح للإخوان بالعمل علانية وفوق الأرض وتحت سمع الدولة وبصرها وبإذن من القانون, بدل أن تلجئهم إلي العمل تحت الأرض فهذا من حقهم بوصفهم مصريين والتزامهم بالدين وبالإسلام لا يجوز أن يكون سببا في حرمانهم من ممارسة حقوقهم المشروعة.
ثم قلت: وقد كان الإخوان موجودين بالفعل منذ عهد الرئيس الراحل السادات رحمه اللهو وكان الأستاذ عمر التلمساني يدعى في الاجتماعات المختلفة باعتباره مرشدا للإخوان قال! قال: ولكن التلمسانى كان عنصرا ملطفا بطبيعته الهادئة, وشخصيته الطيبة, ثم لم يكن التنظيم محكما كما هم محكم اليوم.
قلت: الذي أراه مخلصا: أن علاج هذا كله يكمن في الاعتراف بالإخوان كجماعة لها كيانها وأهدافها ونشاطها في حدود النظام العام والقانون.
ونحن أحوج ما نكون إلي تجمع كل القوى وتوحيد صفوف الأمة للبناء والتنمية والرقى بوطننا بعيدا عن التوترات والصراعات أنا أقول هذا بوصفي مصريا مسلما يحب الخير لوطنه, والإعزاز لدينه وقد علمتنى رحلاتي المختلفة إلي أقطار العالم: أن مصر من أرجى بلاد الله لنصرة الإسلام إن لم تكن أرجاها جميعا.
أنا اقول لك هذا بصراحة العالم لا بمناورة السياسى وأنا ليس لي أى وضع تنظيمى في الإخوان.
قال: نحن نعلم أنه ليس لك أى وضع تنظيمى في الإخوان داخل مصر, ولكن في التنظيم العالمى ألا يوجد لك مشاركة فيه؟
قلت: كان لي مشاركة من قبل ثم استعفيت منذ سنين لأتفرغ لخدمة الإسلام بالعلم والفكر والدعوة, وأعتبر نفسى ملك المسلمين جميعا, لا ملك الإخوان وحدهم, وهذا لا يعنى أنى أتنكر لفكر الإخوان أو لدعوتهم, وهم قد يعتبرونني منظرهم أو مفتيهم, كما أن كتبي تعد من مراجعهم الأولية, وهم أول الناس قراءة لها.
وهناك أسئلة أخرى جرت في هذه المقابلة’ لا تهمنا هنا , إنما الذي يهمنا هو التعليق علي الأحكام العسكرية.
وبعد أكثر من ساعة انتهت المقابلة, وانصرف الضابط المؤول مشكورا ولم نعرف الهدف من وراء المقابلة ولعله مجرد التعرف أو التعارف, المهم أنى قلت ما أعتقد أنه الحق ,بالله التوفيق.
شهادة كاتب منصف
وقبل أن أدفع بهذا الكتاب إلي المطبعة قرأت مقالا يعتبر غاية في العلمية والإنصاف يتحدث عن حسن البنا بمناسبة مضى خمسين سنة علي استشهاده وهو للكاتب الصحفي المعروف الأستاذ صلاح عيسى والرجل لا يتهم بالتحيز للإخوان المسلمين ولا للتيار الإسلامى بل هو محسوب علي الفكر اليسارى ولكنه كتب ما كتب إحقاقا للحق وإبراء للذمة وإنصاف للحقيقة والتاريخ نشرت هذا المقال جريدة الشرق اليومية القطرية يوم الأحد ١٩/ ذى القعدة ١٤١٩ هـ ٧/ ٣/ ١٩٩٩ تحت عنوان: حسن البنا.. لا عنف ولا تزمت.
ويسرنى أن أن أسجل هذا المقال وهذه الشهادة العادلة هنا محييا صاحبها علي حياة ونزاهته وعلميته. يقول الكاتب:
"الذين يضعون فأس اتجاهات التيارات الإسلامية في مصر والعلم العربى نحو التزمت ثم العنف , في فنف الشيخ (حسن البنا) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الذي غاب عن دنيانا في مثل هذه الأيام منذ خمسين عاما, يسيئون عن قراءة وقائع التاريخ ويقحمونه في الصراع السياسى القائم الآن, بينهم وبين التيار الإسلامى بمجمل فصائله فلا يسيئون – بوضعهم الجميع في سلة واحدة – لوقائع التاريخ فحسب ولكنهم – وهذا هو الأخطر – يؤججون نيران العنف حيث يتوهمون أنهم سيقضون عليه , ويقودون الأمة إلي صراع عبثى لا جدوى من ورائه , ويتوهم خلاله كل تياراته الرئيسية في الحركة السياسية العربية أن باستطاعته استئصال الآخرين وبذلك تطيش خطواتها نحو المستقبل في الألفية الثالثة كما طاشت في الألفية الثانية.
وما يتجاهله الذين يحملون (الشيخ البنا) المسؤولية عن نشأة تيار العنف, هو أن تشكيل المنظمات شبه العسكرية كان موضة لدى كل التيارات السياسية في الثلاثينيات في إطار النتائج الإيجابية التي حققتها نظم الحكم في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية التي نجحت استنادا إلي عسكرة المجتمع في استعادة ما أضاعته الحرب العالمية الأولي في حقوق البلدين الوطنية وأن فرق الجوالة التي أنشأها (البنا) وعرفت بفرق القمصان الكاكية, لم تكن الوحيدة في الساحة فقد كانت هناك (القمصان الخضراء) التي شكلتها جماعة (مصر الفتاة) وكان من أعضائها (جمال عبد الناصر) بل إن (الوفد) وهو الحزب الديمقراطى العتيد قد شكل هو الاخر (فرق القمصان الزرقاء) وكل الشواهد التاريخية تؤكد أن (جوالة الإخوان) كانت أكثر هذه الفرق انضباطا سواء من الناحية الأخلاقية أو من ناحية الالتزام بالقانون.
ومما يتجاهلونه كذلك أن الإخوان المسلمين لم يكونوا هم الذين بدأوا باستخدام الرصاص في الحوار السياسى مع القوى السياسية المحلية, فقد كان أول استخدام له, في هذا الإتجاه عام ١٩٢٢ وقبل ست سنوات من تشكليهم عندما اغتال مجهولون يشك في أنهم من المتعاطفين مع (الوفد) اثنين من زعماء (الأحرار) الدستوريين إبان الصراع العنيف بين الطرفين. كما أن أحدا من الإخوان المسلمين لم يشارك في محاولات الاغتيال التي تعرض لها (إسماعيل صدقي) وأركان الانقلاب الديكتاتوري الذي تزعمه طوال النصف الأول من الثلاثينيات وكان أحد أعضاء مصر الفتاة) هو الذي حاول اغتيال (مصطفي النحاس) عام ١٩٣٧.
ولم يكن استخدام العنف ضد الاحتلال البريطانى في الأربعينيات قاصرا علي الإخوان فباستثناء الشيوعيين الذين لا يؤمنون.. من حيث المبدأ.. بالعنف الفردى فقد كان اللجوء للعنف لإجبار المحتلين علي الجلاء أو علي الأقل تنفيذ معاهدة ١٩٣٦, والرحيل عن المدن الكبرى إلي قاعدة قناة السويس يكاد يكون توجا عاما, بين التيارات السياسية الجديدة كالحزب الوطني الجديد , ومصرالفتاة فضلا عن كثير من المنظمات السرية الشابية التي استلهمت تجارب المقاومة السرية ضد الاحتلال النازى لدول أوروبا, وخاصة فرنسا بل إن هذه الموجة قد شملت كذلك قواعد شبابية تنتمى إلي ألأحزاب التقليدية ومنها (الوفد)
ولم يكن الإخوان وحدهم هم الذين غيروا في النصف الثانى من الأربعينات... اتجاه رصاصاتهم من صدور جنود جيش الإحتلال إلي صدور المصريين فالذي قتل احمد ماهر أول ضحية تسقط نتيجة لهذا التغيير لم يكن هذا التوجه, لأن صاحبها هو ضابط الجيش المفصول آنذاك (أنور السادات) الذي تعرف إلي مجموعة من الشبان يتزعمهم (حسين توفيق) كانوا يقومون بعمليات مقاومة سرية ضد ضباط وجنود البلاد من عملاء الإحتلال ويمكنون له انطلاقا من تصور يرى أن تطهير البلاد من عملاء الإحتلال وجواسيسه هو المقدمة الأولي للانتصار عليه.. وهو التيار الذي تواءم مع سعى القصر الملكى للثأر من خصومه من الوفد يين وأسفر عن اغتيال أمين عثمان وعن محاولتين لاغتيال مصطفي النحاس زعيم الوفد.