هذان رأيان باطلان لاحظ لهما من النظر وبقى أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد وهما رأى السلف ورأى الخلف.
مذهب السلف:
٣- أما السلف رضوان الله عليهم فقالوا: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالي فهم يثبتون اليد والعين والأعين والإستواء والضحك والتعجب. الخ وكل ذلك بمعان لا ندركها ونترك الله تبارك وتعالي الإحاطة بعلمها ولا سيما وقد نهينا عن ذلك في قول النبى صلي الله عليه وسلم “ تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروه قدره”
(أ) روى أبو القاسم اللالائى في (أصول السنة) عن محمد ابن الحسن صاحب أبى حنيفة رضى الله عنهما قال:“ اتفق الفقهاء كلهم من المشرق غلي المغرب علي الإيمان بالقرآن والأحاديث التي حدث بها الثقات عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر اليوم شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبى صلي الله عليه وسلم وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا”.
(ب) وذكر الخلال في كتاب “ السنة” عن جنبل وذكره حنبل في كتبه مثل كتاب“ السنة والمحنة” قال حنبل:“ سألت أبا عبد الله عن ألأحاديث التي تروى: إن الله تبارك وتعالي ينزل إلي سماء الدنيا”. “ وإن الله يرى”و“ إن الله يضع قدمه” وما أشبه هذه الأحاديث؟ فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى, ولا نرد منها شيئا ونعلم أن ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم حق إذا كان بأسانيد صحاح, ولا نرد علي الله قوله ولا يوصف الله تبارك وتعالي بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شئ".
(جـ) وروى حرملة بن يحيى قال ك سمعت عبد الله بن وعب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: من وصف شيئا من ذات الله مثل قوله: (وقالت اليهود يد الله مغلولة) المائدة: ٦٤ فأشار بيده إلي عنقه ومثل قوله: (وهو السميع البصير) الشورى: ١١ فأشار إلي عينه ألي أذنه أو شئ من بدنه قطع ذلك منه لأنه شبه الله بنفسه. ثم قال مالك: أما سمعت قول البراء حين ذكر أن البنى صلي الله عليه وسلم قال: لا يضحى بأربع من الضحايا, وأشار البراء بيده كما أشار النبى صلي الله عليه وسلم قال: لا يضحى بأربع من الضحايا, وأشار البراء بيده أن يصف يد رسول الله صلي الله عليه وسلم إجلالا له وهو مخلوق فكيف الخالق الذي ليس كمثله شئ؟!
(د) وروى أبو بكر الأثرم, وأبو عمرو الطلمنكى ,أبو عبد الله بن أبى سلمة الماجشون لاما طويلا في هذا المعنى ختمه بقوله:“ فما وصف الله من نفسه فسماه علي لسان رسوله سميناه كما سماه, ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا ولا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف”.
مذهب الخلف:
وأما الخلف فقد قالوا: إننا نقطع بأنى معانى ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يراد بها ظواهرها, وعلي ذلك فهى مجازات لا مانع من تأويلها فأخذوا يؤولون “ الوجه” بالذات“ اليد” بالقدرة وما إلي ذلك هربا من شبهة التشبيه. وإليك نماذج من أقوالهم في ذلك:
١- أبو الفرج بن الجوزى الحنبلي في كتابه ط دفع شبهة التشبيه": قال الله تعالي: (ويبقى وجه ربك) الرحمن: ٢٧ قال المفسرون يبقى ربك وكذلك قالوا في قوله تعالي: (يريدون وجهه) الكهف:٢٨ وقال الضحاك وأبو عبيدة (كل شئ هالك إلا وجهه) القصص:٨٨ أى إلا هو وعقد في أول الكتاب فصلا ضافيا في الرد علي من قالوا: إن الأخذ بظاهر هذه الآيات والأحاديث هو مذهب السلف وخلاصة ما قاله: أن الأخذ بالظاهر هو تجسيم وتشبيه لأن ظاهر اللفظ هو ما وضع لهو فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة وهكذا وأما مذهب السلف فليس أخذها علي ظاهرها , ولكن السكوت جملة عن البحث فيها.
وأيضا فقد ذهب إلي أن تسميتها آيات صفات: وأحاديث صفات تسمية مبتدعة لم ترد في كتاب ولا في سنة وليست حقيقة فإنها إضافات ليس غير واستدل علي كلامه في ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها هنا.
٢- وقال فخر الدين الرازى في كتابه “ أساس التقديس”: وأعلم أن نصوص القرآن لا يمكن إجراؤها علي ظاهرها لوجوه: الأول ظاهر قوله تعالي (ولتصنع علي عينى) طه: ٣٩ يقتضى أن يكون آلة تلك الصنعة هى تلك العين , والثالث أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح فثبت أنه لابد من المصير إلي التأويل وذلك هو أن تحمل هذه الألفاظ علي شدة العناية والحراسة.
٣- قال الإمام الغزالي في الجزء الأول من كتابه“ إحياء علوم الدين” عند كلامه علي نسبه العلم الظاهر إلي الباطن وأقسام ما يتأتى فيها الظهور والبطون والتأويل وغير التأويل: القسم الثالث أن يكون الشئ بحيث لو ذكر صريحا لفهم ولم يكن فيه ضرر, ولكن يكنى عنه علي سبيل الإستعارة والرمز وليكون وقعه في قلب المستمع أغلب.. ومنه قوله صلي الله عليه وسلم:“ إن المسجد لينزوى من النخامة كما تنزوى الجلدة علي النار”.. ومعناه أن روح الجسد وكونه معظما ورمى النخامة فيها تحقير له فيضاد معنى المسجدية مضادة النار لاتصال أجزاء الجلدة. وأنت ترى أن ساحة لا تنقبض من نخامة وكذلك قوله صلي الله عليه وسلم"
أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار“وذلك من حيث الصورة لم يكن قط ولا يكون ولكن من حيث المعنى هو كائن إذ رأس الحمار لم يكن بحقيقته وكونه وشكله بل بخاصيته , وهى البلادة والحمق وهو المقصود دون الشكل. وإنما يعرف أن هذا السر علي خلاف الظاهر إما بدليل عقلي وشرعى. أما العقلي فإن يكون حمله علي الظاهر غير ممكن كقوله صلي الله عليه وسلم: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن” إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها اصابع فعلم أنها كناية عن القدرة التي هى سر الأصابع وروحها لخفي وكنى بالأصابع عن القدرة لأن ذلك أعظم وقعا في تفهم تمام الأقدار.
إلي هنا وضح أمامك طريقا السلف والخلف وقد كان هذان الطريقان مثار خلاف شديد بين علماء الكلام من أئمة المسلمين , وأخذ كل يدعم مذهبه بالحجج والأدلة ولو بحثت الأمر لعلمت أن مسافة الخلف بين الطرفين لا تحتمل شيئا من هذا لو ترك أهل كل منهما التطرف والغلو وأن البحث في مثل هذا الشأن, مهما طال فيه القول, ولا يؤدى في النهاية إلا إلي نتيجة واحدة وهى التفويض لله تبارك وتعالي وذلك ما سنفصله لك إن شاء الله تعالي.
بين السلف والخلف:
قد علمت أن مذهب السلف في الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالي أن يمروها علي ما جاءت عليه ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالي عن مشابهة خلقه وعلمت أن الخلاف شديد بين أهل الرأيين حتى أدى بينهما إلي التناثر بالألقاب العصبية وبيان ذلك من عدة أوجه:
أولا: اتفق الفريقان علي تنزيه الله تبارك وتعالي عن المشابهة لخلقه.
ثانيا: كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله تبارك وتعالي غير ظواهرها التي وضعت لها هذه الألفاظ في حق المخلوقات , وذلك مترتب علي اتفاقهما علي نفي التشبيه.
ثالثا: كل من الفريقين يعلم أن الألفاظ توضع للتعبير عما يجول في النفوس أو يقع تحت الحواس مما يتعلق بأصحاب اللغة وواضعيها وأن اللغات مهما اتسعت لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم وحقائق ما يتعلق بذات الله تبارك وتعالي من هذا القبيل, فاللغة أقصر من أن تواتينا بالألفاظ التي تدل علي هذه الحقائق فالتحكم في تحديد المعانى بهذه الألفاظ تغرير.
وإذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف علي أصل التأويل وانحصر الخلاف بينهما في أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجائهم ضرورة التنزيه إلي حفظا العقائد العوام من شبهة التشبيه وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا.
ترجيح مذهب السلف:
قال الشيخ البنا رحمه الله:
" ونحن نعتقد أن رأى السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعانى إلي الله تبارك وتعالي: اسلم وأولي بالاتباع حسما لمادة التأويل والتعطيل فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان وأثلج صدره ببرد اليقين فلا تعدل به بديلا.
ونعتقد إلي جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق ولا تستدعى هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديما وحديثا وصدر فسلام أوسع من هذا كله. وقد لجأ أشد الناس تمسكا برأى السلف, رضوان الله عليهم إلي التأويل في عدة مواطنو وهو الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه من ذلك تأويله لحديث:“ الحجر الأسود يمين الله في أرضه” وقوله صلي الله عليه وسلم:“ قلب المؤمن بين إصبعين من اصابع الرحمن” وقوله صلي الله عليه وسلم:“ إنى لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن”
وقد رايت للإمام النووى رضى الله عنه ما يفيد قرب مسافة الخلاف بين الرأيين مما لا يدع مجالا للنزاع والجدال ولا سيما وقد قيد الخلف أنفسهم في التأويل بجوازه عقلا وشرعا بحيث لا يصطدم بأصل من اصول الدين.