أن أتحدث عن ضرورة التجديد وشرعيته حتى لحق الحق ويزهق الباطل.
ولا بأس أن أقتبس بعض ما كتبته هنا, ولما فيه من دلالة على وجود التجدد والنقد الذاتي في مسيرة الإخوان وقبول الفكر العام في جماعة الإخوان لهذا النقد البناء ولا ريب أن ذلك يعتبر ظاهرة صحية.
الإسلام أقر شرعية التجديد:
لا يقال هنا: إن الحركة إسلامية المصدر والوجهة والأهداف والمبادئ والإسلام واحد لا يتعدد ثابت لا يتجدد.
لأننا نقول أول: إن الإسلام نفسه قد اقر شرعية التجديد بما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم وغيره وصححه الأئمة الثقات “ إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.
فالتجديد مشروع وثابت وواقع بالنص وليس بعد بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان. فلا ينبغي أن نخاف من كلمة التجديد في الدين بعد أن صح بها الحديث. إنما الذي ينبغي هنا أن نحدد معنى “ التجديد في الدين” حتى لا يتلاعب المتلاعبون بالدين وحقائقه باسم تجديد هم المزعوم وما هم من التجديد في كثير ولا قليل.
وقد بينت في دراسة لي حول هذا الحديث الشريف: المراد به" التجديد وجوانبه ومن يقوم به. وخلاصة القول فيه: أن تجديد الشئ ما لا يعنى إزالته واستحداث شئ آخر مكانه, بل تجديده يعنى إعادته أقرب ما يكون إلي صورته الأولي يوم ظهر فيه لأول مرة والمحافظة علي جوهره وخصائصه ومعالمه وعدم المساس بها.
وهذا ينطبق علي الماديات والمعنويات. فتجديد بناء أثرى قصر أو معبد أو مسجد لا يعنى هدمه وبناء آخر مكانه علي أحدث طراز بل ابقاءه والحرص علي إرجاعه إلي صورته الأولي ما أمكن ذلك. فهذا هو التجديد الحقيقى.
وتجديد الدين يشمل تجديد الفهم والفقه فيهو وهذا تجديد فكرى كما يشمل تجديد الإيمان به, وهذا تجديد روحى وتجديد العمل له والدعوة إليه وهذا تجديد عملي.
وكل عصر يحتاج إلي تجديد يناسبه , ليجبر القصور, ويستكمل النواقص ويعالج الأدواء.
علي أن هناك منطقة لا يدخلها التجديد بحال, وهى منطقة (القطعيات) التي قال فيها الإسلام كلمته البينة الحاسمة سواء في مجال العقائد أو العبادات أم الأخلاق أو التشريع وهى تمثل (الثوابت) التي تجسد الوحدة العقدية والفكية والشعورية والسلوكية للأمة المسلمة.
وقد شرحت ذلك في كتب أخرى فليرجع إليها. (انظر علي سبيل المثال فصل (معالم وضوابط الاجتهاد معاصر قويم) من كتابنا (الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط) وفصل (الاجتهاد والتجديد بين الضوابط الشرعية والحاجات المعاصرة)
ضرورة لتجديد في الوسائل:
ونقول ثانيا: إن الحركة- وإن كانت إسلامية المصدر والوجهة والأهداف والمبادئ – تتخذ من المناهج والوسائل والأنظمة الاجتهادية ما تراه اصلح لخدمة دينها والتمكين له في الأرض حسبما يقتضيه الزمان والمكان والحال.
فهذه المناهج والوسائل والأنظمة ليست خالدة خلود الإسلام نفسه, وليس لها ثبات المبادئ والأصول الإسلامية بل هى أدوات أثمرها الاجتهاد البشرى لإحياء الإسلام وتجديده في الأنفس والحياة وهى قابلة للتطعيم والاقتباس من خير ما عند الآخرين كما علا قابلة للتطور والتغير.
والإمام حسن البنا الذي وضع القواعد الأولي للعمل الحركي المنظم لتجديد الإسلام لم يدع العصمة لنفسه ولا الخلود لوسائله التي ألهمه الله الاهتداء إليها وهى وسائل بالغة الروعة والقوة, وحق للشهيد سيد قطب أن يسميها “ عبقرية البناء” وحق للمرشد الموفق الأستاذ عمر التلمساني أن يسميه “ القائد الملهم الموهوب” وحق لشيخنا الغزالي ان يصفه بأنه “مجدد القرن الرابع عشر الهجرى”. ومع هذا يجب أن تخضع هذه الوسائل والأنظمة للتقويم ما بين الحين والحين كما يفعل رجال التربية في مناهجهم التي يقررونها ويؤلفون الكتب في ضوئها, ثم لا تمر سنوات حتى يعيدوا النظر فيها بالإضافة أو الحذف أو التحوير والتعديل, وهذا أمر لازم لكل عمل بشرى مهما بلغ من الدقة والإتقان.
حسن البنا لم يكن جامدا
وحسن البنا نفسه لم يكن جامدا بل كان دائم التجديد والتطوير للوسائل والأساليب في أبنيته الحركة ومؤسساتها وأنظمتها.
ولن يضيق الشهيد حسن البنا في قبره إذا خالفه بعض أبنائه وأتباعه في قضية من القضايا التي كان له فيها رأى من قبل مثل ما ذكرته من اجتهادات قد لا يوافق ظاهرها ما ذهب إليه رحمه الله.
وكذلك إذا أضاف إلي أصوله ما يرى أنه مكمل لها. كما فهل الشيخ الغزالي في شرحه للأصول العشرين في كتابه الذي سماه (دستور الوحدة الثقافية للمسلمين) .
ولا يوجد مانع شرعى ولا عرفي ولا عقلي من إعادة البحث في الوسائل والأنظمة التربوية داخل الجماعة مثل نظام السرة والكتيبة وما يمكن أن يطعم به أو يضاف إليه أو يحذف منه.
وكذلك البحث في الوسائل السياسية في ضوء المستجدات والمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية, ما تقضى به من دخول في جبهات او مخالفات أو مهادنات أو مشاركات حسبما توجبه المصلحة العليا للإسلام وللأمة وللحركة وفي ظل الظروف الآنية والموضعية الحاكمة فلكل قطر ظروفه ولكل مرحلة حكمها ولكل مجموعة قدراتها وضروراتها وملبساتها التي هى أدرى بها من غيرها.
والحركة هنا – مثلها كمثل الفقه وغيره من علوم الشريعة – لا تحيا وتنمو المقلدين الجامدين إن صح أن ما عندهم يسمى “ فكرا”.
الجمود آفة خطرة:
إن الجمود آفة من آفات الفكر الحركي“ المؤطر” وهو عائق من العوائق الداخلية في الحركة الإسلامية كما بينت ذلك في كتابى (الحل الإسلامى فريضة وضرورة) كما أكدت ذلك في رسالتي (أين الخلل) ؟
الجمود علي شكل معين في التنظيم وعلي وسائل معينة في التربية وعلي صور معينة في الدعوة, وعلي مراحل معينة في الوصول إلي الهدف وعلي أفكار معينة في السياسة... ومن حاول أن يغير من هذا الشكل أو تلك الوسيلة أو هذه الصورة أو تلك المراحل, أو تلك الأفكار أو يعدل فيها بالزيادة والنقص قوبل بالرفض الشديد, أو الاتهامات والتنديد.
ولا زلت أؤكد أن التجديد الذي نريده لا يعنى إلغاء القديم بل تطويره وتحسينه وتحديثه والإضافة إليه وبخاصة ما يتعلق بالوسائل والأدوات والكيفيات فهى أمور مرنة قابلة للتطوير والتحويل والاستفادة من إمكانات العصر ومما عند الآخرين والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. ولا يعنى هذا أن نفتعل التجديد ونحن في غير حاجة إليه إلا التظاهر الزائف بأننا من أنصار التجديد!!
ما أخشاه علي الحركة الإسلامية:
ولقد قلت في هذا المقام معبرا عن خشيتى علي الحركة من الجمود:
إن أخشى ما أخشاه علي الحركة الإسلامية أن تضيق بالمفكرين الأحرار من أبنائها وأن تغلق النوافذ في وجه التجديد والاجتهاد وتقف عند لون واحد من التفكير لا يقبل وجهة نظر آخرة, تحمل رأيا مخالفا في ترتيب الأهداف, أو في تحديد الوسائل, أو في تعيين المراحل أو في تقويم الأحداث والمواقف, أو في تقدير الرجال والأشخاص, أو في غير ذلك مما يدخل في دائرة الاجتهاد البشرى الذي من شأنه أن يتطور ويتغير بتغير العوامل والمؤثرات وقديما قال فقهاؤنا:
يجب أن تتغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد.
وعندئذ تتسرب الكفايات العقلية القادرة علي التجديد والابتكار من بين صفوف الحركة كما يتسرب الماء من بين الأصابع ولا يبقى في النهاية إلا المحافظون المقلدون والذين يحبون أن يبقى كل قديم علي قدمه , وأن ما نعرفه خير مما لا نعرفه وما جربناه أفضل مما لم نجربه.
ونتيجة هذا: أن تحرم الحركة من ثمرات العقول الكبيرة من أبنائها, وأن تصاب في النهاية بالجمود أو العقم الذي أصاب الفقه والأدب في عصور التقليد وأن يتقوقع هؤلاء علي ذواتهم يأسا من أى عمل مثمر للإسلام أو يعملوا فرادى نافضين أيديهم من جدوى أى عمل جماعى, أو يحاولون مع آخرين خوض تجربة جماعية أخرى لا تدرى عواقبها.
إن من أهم ما أضر بالعقل المسلم قديما وأضر به حديثا شيوع تلك المقولة التي تقول: ما ترك الأول للآخر شيئا! وليس في الإمكان أبدع مما كان!
ولا ينفع العقل المسلم شئ مثل شيوع الفكرة المضادة التي تقول أبدا: كم ترك الأول للآخر, وكم في الإمكان أبدع مما كان (ويخلق ما لا تعلمون)
تطور محمود:
ولقد رأيت الإخوان في السنوات الأخيرة يعقدون حلقات ويقيمون نزوات فيما بينهم لتقويم أداء الجماعة ومراجعة مسيرتها والاجتهاد في معرفة نقاط الضعف في ذلك للعمل علي تلافيها, وعلاج أسبابها ومعرفة نقاط القوة للاستزادة منها, وهو لون إيجابى من النقد الذاتي أو محاسبة النفس التي أمر بها الإسلام.
كما أنشأوا مراكز للبحوث والدراسات يقوم عليها شباب متطلع طموح نرجو لها غدا مشرقا بإذن الله.