وهذا بلا ريب تطور محمود وهو ما يؤمل من جماعة كبيرة مثل الإخوان لها امتداد في أكثر من سبعين بلدا في العالم.
ولقد رأينا قيادة الإخوان تصدر قرارات متميزة تعبر عن هذا التطور وتبتعد عن الحرفية والجمود علي القديم وخصوصا ما يتعلق بالمرأة وبالتعددية السياسية خلافا لما يظن أنه خلاف رأى الإمام البنا عليه رحمه الله.
٣- الإخوان والأقليات الدينية
ومن التهم التي قد يشوش بها مشوشون: دعوى أن الإخوان متعصبون ضد الأقليات الدينية, وأنهم لا يعطونهم حق المواطنة كالمسلمين مع أنهم من أهل البلاد الأصليين, وأنهم يطالبونهم بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون ولا يبدءونهم بالسلام, وإذا لقوهم في الطريق اضطروهم إلي أضيقة وأنهم يمنعونهم من وظائف الدولة ولا سيما من الوظائف العسكرية في الجيش أو في الشرطة... الخ
ونقول لهؤلاء: لا ريب أن الإسلام قد اقر تعدد الأديان وجعل ذلك واقعا بمشيئة الله تعالي, ولو شاء لجمع الناس علي الهدى كما أن حساب الضالين علي ضلالهم إنما موعده يوم القيامة فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
ومع هذا جعل الإسلام لليهود والنصارى منزلة خاصة وسماهما (أهل الكتاب) أي التوراة والإنجيل وإن حرفا وبدلا ولكن يظل هؤلاء أهل دين سماوي في الأصل يؤمنون – بالجملة – بالله ويؤمنون برسله ويؤمنون بالآخرة ويتعبدون لله, ويعترفون بالقيم الأخلاقية.
فلا غرو أن أباح الإسلام مؤالكتهم ومصاهرتهم حين قال القرآن (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) وبهذا ارتقى الإسلام إلي أفق في التسامح لم يسم إليه أحد من قبل وأجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته, وشريكة حياته , وأم أولاده: كتابية. ومعنى هذا: أن يكون أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم كتابيين ولهم حقوق أولي القربى وصلة الرحم.
واعتبر النصارى أقرب مودة للمسلمين من اليهود الذين وقفوا – للأسف – موقف العداوة والمحاربة الإسلامية ولنبيها عليه الصلاة والسلام.
ولذل دخلت بلاد مسيحية كاملة في الإسلام ولم يدخل إلا أفراد قلائل من اليهود في الإسلام.
ثم إن أهل الذمة من أهل الكتاب لهم حقوق أخص وأعمق من غيرهم بوصفهم من (أهل دار الإسلام) .
ثم كانت الوصية بالأقباط أكثر من غيرهم في عدة أحاديث صحيحة:
منها حديث أم سلمة ان الرسول صلي الله عليه وسلم أوصى عند وفاته فقال“ الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم, ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله” وفي صحيح مسلم عن ابى ذر مرفوعا:“ إنكم ستفتحون مصر فإذا فتحتموها فأحسنوا إلي أهلها فإن لهم ذمة ورحما” وفي رواية “ ذمة وصهرا” قال العلماء: الرحم: أن هاجر أم إسماعيل منهم, والصهر: أن مارية أم إبراهيم ابن النبى صلي الله عليه وسلم منهم.
وكان الأستاذ البنا يعلم تعاليم الإسلام جيدا في ذلك ويتعامل مع الأقباط بروح التسامح الإسلامى الأصيل الذي يصدر عن العقيدة لا عن نفاق السياسى الذي يظهر غير ايبطن.
ولقد كان في اللجنة السياسية للإخوان بعض الأقباط المعروفين من رجال السياسة المحنكين.
ولا زلت أذكر حينما حضر الإمام البنا إلي مدينة طنطا لعقد المؤتمر الوطنى الكبير (بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) لشرح الأهداف والمطالب القومية وقد عقد مثل هذا المؤتمر في عواصم المديريات (المحافظة) في مصر كان يصطحب معه أحد الأقباط المتخصصين ليتحدث في قضية (قناة السويس) واسمه ناصف ميخائيل وذلك ليؤكد معنى التضامن الوطنى بين الأغلبية المسلمة والأقلية القبطية وأن مصر لهم جميعا.
ولقد سئل حسن البنا عن مسألة الجزية , فقال: إن مسألة الجزية أصبحت ليوم غير ذات موضوع ما دام كل المواطنين ينخرطون في الخدمة العسكرية ويدافعون عن الوطن, سواء بسواء, وقد كان المسلمون قديما هم الذين يدفعون ضريبة الدم, فعلي الآخرين أن يدفعوا ضريبة المال.
يريد الأستاذ أن يقول ما قاله بعض الفقهاء من قديم: أن أهل الذمة غذا اشتركوا مع المسلمين في القتال ضد أعدائهم سقطت عنهم الجزية.
وكان الأستاذ البنا يفسر دفع الجزية بأنه (بدل خدمة عسكرية) وقد كان غير المسلمين شهداء بدفع هذا البدل في الزمن الماضى بل كان كثير من موسرى المسلمين يدفعون هذا البدل لإعفاء أبنائهم من الجندية , قبل عصر التجنيد الإجباري.
وكان حفظة القرآن الكريم يعفون من هذه الخدمة فلم يكن الناس ينظرون إلي الجندية نظرتنا إليها اليوم.
موقف حسن البنا
يقول الدكتور حسان حتحوت في مقاله له نشرتها مجلة الأمة القطرية (عدد ٥٥ – رجب ١٤٠٥) تحت عنوانه (تهمة التعصب) :
" فماذا عن قنا؟ البداية حفل كبير زاخر, علي رأسه علماء المسلمين وقسس الأقباط... وعلي ذكر قسس الأقباط فإن كثيرين يحاولون ان يلصقوا بالرجل ودعوته تهمة التعصب ضد النصارى, أو التفرقة بين عنصرى الأمة , ويشهد الله ومن حضر من الصادقين أن العكس هو الصحيح , فلم يكن الرجل داعية بغض ولا تفرقة وكان يبرهن أن الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تكون مصدر إزعاج للأقباط ,لأنها ستطبق علينا وعليهم علي السواء وانها لا تصادر نصرانية النصرانى....وقد وجدت دعوة الرجل صداها وتصديقها لدى الفهم من المسلمين والأقباط....ويكفي أن أذكر بأن الأستاذ (لويس فانوس) من زعماء الأقباط كان من الزبائن المستديمين لدرس الثلاثاء الذي يلقيه حسن البنا, وكانت بينهما صداقة وطيدة.