هُوَ مِثْلُهُ فِي الْفَضْلِ إِلَّا أَنَّهُ
لَمْ يَأْتِهْ بِرِسَالَةٍ جِبْرِيلُ.
فَصَدْرُ الْبَيْتِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ شَدِيدٌ؛ لِتَشْبِيهِهِ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَجْزُ مُحْتَمَلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ نَقَصَتِ الْمَمْدُوحَ، وَالْآخَرُ: اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهَا، وَهَذِهِ أَشَدُّ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَاتُهُ
... صَفَّقَتْ بَيْنَ جَنَاحَيْ جِبْرَئِيلَ.
وَقَوْلُ الْآخَرِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ:
فَرَّ مِنَ الْخُلْدِ وَاسْتَجَارَ بِنَا
... فَصَبَّرَ اللَّهُ قَلْبَ رِضْوَانِ.
وَكَقَوْلِ حسان المصيصي - مِنْ شُعَرَاءِ الْأَنْدَلُسِ - فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَعْرُوفِ بِالْمُعْتَمِدِ، وَوَزِيرِهِ أبي بكر بن زيدون:
كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَبُو بَكْرِ الرِّضَا
... وَحَسَّانَ حَسَّانُ وَأَنْتَ مُحَمَّدُ.
إِلَى أَمْثَالِ هَذَا، وَإِنَّمَا كَثَّرْنَا بِشَاهِدِهَا مَعَ اسْتِثْقَالِنَا حِكَايَتَهَا؛ لِتَعْرِيفِ أَمْثِلَتِهَا وَلِتَسَاهُلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي وُلُوجِ هَذَا الْبَابِ الضَّنْكِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ فَادِحَ هَذَا الْعِبْءِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ، وَكَلَامِهِمْ فِيهِ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ - وَيَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ - لَا سِيَّمَا الشُّعَرَاءُ، وَأَشَدُّهُمْ فِيهِ تَصْرِيحًا وَلِلِسَانِهِ تَسْرِيحًا ابن هانئ الأندلسي، وابن سليمان المعري، بَلْ قَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمَا عَنْ هَذَا إِلَى حَدِّ الِاسْتِخْفَافِ وَالنَّقْصِ وَصَرِيحِ الْكُفْرِ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ.
وَغَرَضُنَا الْآنَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الَّذِي سُقْنَا أَمْثِلَتَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْ سَبًّا، وَلَا أَضَافَتْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ نَقْصًا وَلَسْتُ أَعْنِي عَجُزَيْ بَيْتَيِ المعري، وَلَا قَصْدَ قَائِلِهَا إِزْرَاءً وَغَضًّا، فَمَا وَقَّرَ النُّبُوَّةَ، وَلَا عَظَّمَ الرِّسَالَةَ، وَلَا عَزَّزَ حُرْمَةَ الِاصْطِفَاءِ، وَلَا عَزَّزَ حُظْوَةَ الْكَرَامَةِ، حَتَّى شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ فِي كَرَامَةٍ نَالَهَا أَوْ مَعَرَّةٍ قَصَدَ الِانْتِفَاءَ مِنْهَا، أَوْ ضَرْبَ مَثَلٍ لِتَطْيِيبِ مَجْلِسِهِ، أَوْ إِغْلَاءً فِي وَصْفٍ لِتَحْسِينِ كَلَامِهِ بِمَنْ عَظَّمَ اللَّهُ خَطَرَهُ وَشَرَّفَ قَدْرَهُ، وَأَلْزَمَ تَوْقِيرَهُ وَبِرَّهُ، وَنَهَى عَنْ جَهْرِ الْقَوْلِ لَهُ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ، فَحَقُّ هَذَا إِنْ دُرِئَ عَنْهُ الْقَتْلُ الْأَدَبُ وَالسِّجْنُ، وَقُوَّةُ تَعْزِيرِهِ بِحَسَبِ شُنْعَةِ مَقَالِهِ، وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ لِمِثْلِهِ أَوْ نُدُورِهِ، أَوْ قَرِينَةِ كَلَامِهِ، أَوْ نَدَمِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُتَقَدِّمُونَ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا مِمَّنْ جَاءَ بِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الرَّشِيدُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ قَوْلَهُ: