الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْفَتْوَى، وَقَدْ رَوَاهُ أبو داود مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أبو داود، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، والحاكم بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ» ) وَمَعْنَى قَطَعَهُ اللَّهُ أَيْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ، وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ إِثْمِ مَنْ لَا يُتِمُّ الصُّفُوفَ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: ( «مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ» ) ، فَقَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَ الْوُجُوبَ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: " سَوُّوا "، وَمِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) ، وَمِنْ وُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ، فَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْقَرَائِنِ أَنَّ إِنْكَارَ أَنَسٍ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ وَمَعَ الْقَوْلِ بِهِ صَلَاةُ مَنْ خَالَفَ صَحِيحَةٌ لِاخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ.
وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَجَزَمَ بِالْبُطْلَانِ، وَنَازَعَ مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِمَا صَحَّ عَنْ عمر، أَنَّهُ ضَرَبَ قَدَمَ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ لِإِقَامَةِ الصَّفِّ، وَبِمَا صَحَّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: كَانَ بلال يُسَوِّي مَنَاكِبَنَا، وَيَضْرِبُ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَا كَانَ عمر وبلال يَضْرِبَانِ أَحَدًا عَلَى تَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ قَالَ ابن حجر: وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ التَّعْزِيرَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ لَمَّا كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا الَّتِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الْمَدْحَ عَلَيْهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ لَهُ الْفَضِيلَةُ، وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ ( «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» ) .
قَالَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ: تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ تُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ: اعْتِدَالُ الْقَائِمِينَ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ، وَسَدُّ الْخَلَلِ الَّذِي فِي الصَّفِّ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فَقِيلَ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِتَشْوِيهِ الْوَجْهِ تَحْوِيلُ خَلْقِهِ عَنْ وَضْعِهِ بِجَعْلِهِ مَوْضِعَ الْقَفَا، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: وَعَلَى هَذَا، فَهُوَ وَاجِبٌ وَالتَّفْرِيطُ فِيهِ حَرَامٌ قَالَ: وَهُوَ نَظِيرُ الْوَعِيدِ فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ قَالَ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ أبي أمامة: ( «لَتُسَوُّنَّ الصُّفُوفَ، أَوْ لَتُطْمَسَنَّ الْوُجُوهُ» ) رَوَاهُ أحمد بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ هَذَا نَظِيرَ مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ فِي الْوَعِيدِ، فَهُوَ نَظِيرُهُ فِي سُقُوطِ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ قَالَ النووي: مَعْنَاهُ تُوقَعُ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَاخْتِلَافُ الْقُلُوبِ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا حَدِيثُ ( «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا» ) قَالَ الشُّرَّاحُ: الْمُرَادُ بِأَقِيمُوا اعْتَدِلُوا، وَبِتَرَاصُّوا تَلَاصَقُوا بِغَيْرِ خَلَلٍ، وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ ( «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ» ) اسْتَدَلَّ