قَالَ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْإِرَادَةِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِنْ كَانَ مُشَمِّرًا لِلْفَنَاءِ الْعَالِي وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مُرَادٌ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ النَّبَوِيَّ الْقُرْآنِيَّ، بَلْ يَتَّحِدُ الْمُرَادَانِ فَيَصِيرُ عَيْنُ مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى هُوَ عَيْنَ مُرَادِ الْعَبْدِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ وَفِيهَا يَكُونُ الِاتِّحَادُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْمُرَادِ لَا فِي الْمُرِيدِ وَلَا فِي الْإِرَادَةِ، قَالَ: فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفُرْقَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي طَالَمَا زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ السَّالِكِينَ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْوَاحِدِينَ، انْتَهَى.
وَقَدْ تَكَرَّرَ كَلَامُ ابن القيم فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي تَضْلِيلِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَقَدْ سُقْتُ مِنْهُ أَشْيَاءَ فِي كِتَابِي الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فَلْيُنْظَرْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنَّ الْعَبْدَ لَهُ فِي فِعْلِهِ نَوْعُ اخْتِيَارٍ هَلْ هُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} القصص: 68 .
الْجَوَابُ: لَا مُعَارَضَةَ فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ الَّذِي بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْإِبْدَاعِ خَاصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَمَّا الِاخْتِيَارُ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ لِلْعَبْدِ، فَالْمُرَادُ بِهِ قَصْدُهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَمَيْلُهُ إِلَيْهِ وَرِضَاهُ بِهِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا لَا عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ وَالْإِلْجَاءِ إِلَيْهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً بِهَا يَمِيلُ وَيَفْعَلُ، فَالْخَلْقُ مِنَ اللَّهِ وَالْمَيْلُ وَالْفِعْلُ مِنَ الْعَبْدِ صَادِرَانِ عَنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ فَهُمَا أَثَرُ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ، فَالِاخْتِيَارُ الْمَنْسُوبُ لِلْعَبْدِ الْمُفَسَّرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَثَرُ الِاخْتِيَارِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَافْتَرَقَا، وَلَا إِنْكَارَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ لِلْآيَةِ، وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَالْجَبْرِ مَعًا، قَالَ الأصبهاني فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} البقرة: 15 : اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ بِالِاخْتِيَارِ فَلَهُ اعْتِبَارَانِ إِنْ نَظَرْتَ إِلَى وُجُودِهِ وَحُدُوثِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ التَّخْصِيصِ فَانْسُبْ ذَلِكَ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى تَمَيُّزِهِ عَنِ الْقَسْرِيِّ الضَّرُورِيِّ فَانْسُبْهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِلَى الْعَبْدِ وَهِيَ النِّسْبَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا شَرْعًا بِالْكَسْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} البقرة: 286 ، وَقَوْلِهِ: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الروم: 41 وَهِيَ الْمُحَقِّقَةُ أَيْضًا إِذَا عَرَضْتَ فِي ذِهْنِكَ الْحَرَكَتَيْنِ الِاضْطِرَارِيَّةَ كَالرَّعْشَةِ