الْوَجْهُ التَّاسِعُ: لَمَّا كَانَ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ لَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ وَلَا يُمَثَّلُ بِالصُّوَرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَلَا يُمَثَّلُ بِالصُّوَرِ وَالْآثَارِ وَلَا يُشَبَّهُ بِالشُّمُوسِ وَالْأَقْمَارِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى: 11 .
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: لَمَّا كَانَ الرُّوحُ لَا يُحَسُّ وَلَا يُمَسُّ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحِسِّ وَالْجِسْمِ وَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ، فَطُوبَى لِمَنْ عَرَفَ وَبِذَنْبِهِ اعْتَرَفَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَفْسِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّكَ تَعْرِفُ أَنَّ صِفَاتِ نَفْسِكَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ صِفَاتِ رَبِّكَ، فَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْفَنَاءِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْبَقَاءِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْجَفَاءِ وَالْخَطَأِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْوَفَاءِ وَالْعَطَاءِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ كَمَا هِيَ عَرَفَ رَبَّهُ كَمَا هُوَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِيَّاكَ كَمَا إِيَّاكَ، فَكَيْفَ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ إِيَّاهُ كَمَا إِيَّاهُ؟ فَكَأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ، عَلَّقَ الْمُسْتَحِيلَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ أَنْ تَعْرِفَ نَفْسَكَ وَكَيْفِيَّتَهَا وَكَمِّيَّتَهَا، فَإِنَّكَ إِذَا كُنْتَ لَا تُطِيقُ بِأَنْ تَصِفَ نَفْسَكَ الَّتِي هِيَ بَيْنَ جَنْبَيْكَ بِكَيْفِيَّةٍ وَأَيْنِيَّةٍ وَلَا بِسَجِيَّةٍ وَلَا هَيْكَلِيَّةٍ وَلَا هِيَ بِمَرْئِيَّةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِعُبُودِيَّتِكَ أَنْ تَصِفَ الرُّبُوبِيَّةَ بِكَيْفَ وَأَيْنَ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنِ الْكَيْفِ وَالْأَيْنِ؟ وَفِي ذَلِكَ أَقُولُ:
قُلْ لِمَنْ يَفْهَمُ عَنِّي مَا أَقُولُ
... قَصَرَ الْقَوْلُ فَذَا شَرْحٌ يَطُولْ
هُوَ سِرٌّ غَامِضٌ مِنْ دُونِهِ
... ضُرِبَتْ وَاللَّهِ أَعْنَاقُ الْفُحُولْ
أَنْتَ لَا تَعْرِفُ إِيَّاكَ وَلَا
... تَدْرِ مَنْ أَنْتَ وَلَا كَيْفَ الْوُصُولْ
لَا وَلَا تَدْرِ صِفَاتٍ رُكِّبَتْ
... فِيكَ حَارَتْ فِي خَفَايَاهَا الْعُقُولْ
أَيْنَ مِنْكَ الرُّوحُ فِي جَوْهَرِهَا
... هَلْ تَرَاهَا فَتَرَى كَيْفَ تَجُولْ
هَذِهِ الْأَنْفَاسُ هَلْ تَحْصُرُهَا
... لَا وَلَا تَدْرِي مَتَى مِنْكَ تَزُولْ
أَيْنَ مِنْكَ الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ إِذَا
... غَلَبَ النَّوْمُ فَقُلْ لِي يَا جَهُولْ
أَنْتَ أَكْلُ الْخُبْزِ لَا تَعْرِفُهُ
... كَيْفَ يَجْرِي مِنْكَ أَمْ كَيْفَ تَبُولْ
فَإِذَا كَانَتْ طَوَايَاكَ الَّتِي
... بَيْنَ جَنْبَيْكَ كَذَا فِيهَا خُلُولْ
كَيْفَ تَدْرِي مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
... لَا تَقُلْ كَيْفَ اسْتَوَى كَيْفَ النُّزُولْ
كَيْفَ تَجَلَّى اللَّهُ أَمْ كَيْفَ يُرَى
... فَلَعَمْرِي لَيْسَ ذَا إِلَّا فُضُولْ