إحداهما: أنّ اللّبس لا يقع فيهما؛ لأنّ ضمير المنصوب والمخفوض لا يكون إلا بعلامة ملفوظ بها تتبعها النفس، والمرفوع يكون بغير علامة فيقع من جهته اللبس.
والجهة الأخرى: أنّ المنصوب والمجرور لا ضمير لهما منفصل في الأصل، وهما يؤكّدان بضمير المرفوع كقولك: رأيتك أنت ومررت بك أنت، واستعمال ضمير المرفوع في غير موضعه من غير قصد إلى التوكيد به يضعف؛ لأنه إذا قدّم من أجل النفس فليس يراد التوكيد به.
وأمّا (فعلتم أجمعون) فحسن؛ لأنه يعمّ به، وهو موضوع للتوكيد والعموم، ولا يستعمل في مواضع الأسماء، ولا يقع فيه لبس، وقد استعمل (كلّهم) في موضعها لاشتراكهما في العموم، وعلى أن (كلهم) ليس بمتمكن في مواضع الأسماء؛ لأن المستحسن فيه أن يكون مبتدأ أو يعمّ به ما قبله، فمجراه مجرى أجمعين في هذا الوجه.
وأمّا قبح عطف الظاهر المجرور على المضمر المجرور فليس بين النحويين فيه خلاف، وقد احتج له سيبويه بما ذكرناه من كلامه، واحتج أبو عثمان المازني لذلك بأن قال: " لما كان المضمر المجرور لا يعطف على الظاهر إلا بإعادة الخافض كقولك: مررت بزيد وبك، ولا يجوز أن تقول: مررت بزيد وك، كذلك تقول: مررت بك وبزيد، فتحمل كل واحد منهما على صاحبه "، وشايعه أبو العباس المبرد في ذلك، وقد جاء في الشعر عطف الظاهر المجرور على المضمر في أبيات كثيرة منها ما ذكرنا في جملة الباب ومنها قوله (أنشده الفرّاء):
تعلّق في مثل السّواري سيوفنا
… فما بينها والكعب غوط نفانف (1)
أراد: وبين الكعب، فعطف على المكنيّ المخفوض، وأنشد أيضا:
أكرّ على الكتيبة لا أبالي
… أفيها كان حتفي أم سواها (2)
قال أبو سعيد: أمّا هذا البيت الأخير فليس فيه حجة؛ لأن سواها ظرف؛ ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أفي اليوم كان حتف زيد أم يوم الجمعة؟
فإن قال قائل: فأنتم تقولون: مررت بك وزيدا، فتنصبون زيدا بالعطف على موضع الباء أو بتأويل: لقيتك وزيدا ولا تكون فيه ضرورة؛ فهلا نصب هؤلاء الشعراء ما خفضوه وخرجوا عن الضرورة؟