تقدم قولنا فيه.
وأما ما يقصد فيه تقدير القرب والبعد على وجه المساحة، فقولك: هو مني فرسخان، وهو مني عدوة الفرس، ودعوة الرجل، وهو مني يومان، وهو مني فوت اليد.
فإن هذا لا يستعمل فيه إلا الرفع، ويفارق الباب الأول لأن معنى هذا أنه يخبرك أن بينه وبينه فرسخين، ويومين، ومعنى فوت اليد: أن يمدّ يده إليه فلا يناله، ويريد به تقريب ما بينهما، فجرى على الكلام الأول كأنه هو توسّعا كما قالوا: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة، وإلا فتقديره إذا قلت: هو مني فرسخان، أي بعده مني مسيرة فرسخين فيجوز وكما يجوز وفي يوم الجمعة حين قالوا: أخطب أيامه يوم الجمعة، واليوم لا يخطب، فجعلوه خطيبا، وكما قالوا: أمّا النهار ففي قيد وسلسلة. وإنما يريد: المقيد في النهار، فأجرى اللفظ على النهار، فأما قوله:
(وقول العرب أنت مني براء ومسمع). وذكر الفصل.
فإنه يريد أنهم رفعوه، جعلوه الأول كما قالوا: زيد مني قريب، ومن العرب من ينصب فيقول مرأى ومسمعا فجعله ظرفا لأنهم قالوا: بمرأى ومسمع، فدخلت عليه الباء، صار غير الاسم الأول فإذا صار غيره ولا يأتيه نصب، نصب على الظرف كما تقول:
أنت مني مكان زيد أو أنت مكان زيد.
قال سيبويه: (واعلم أن هذه الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في أن تكون أسماء كالقصد والنّحو والقبل والناحية).
وإنّا قد ذكرنا تمكن هذه الأسماء وأنها أقرب إلى الأسماء المتمكنة من الخلف والأمام.
قال سيبويه: (وأمّا الخلف والأمام والتحت والفوق، فتكون أسماء، وكينونة تلك أكثر وأجرى في كلامهم).
فإنه يعني: أن القصد والنحو والقبل والناحية، أكثر في الأسماء من الخلف والأمام، وقد ذكر سيبويه في الباب قبل هذا: (أن دونك لا يرتفع أبدا)، وقد ذكره هاهنا فيما أجاز رفعه بما يكون أسماء غير ظروف، والأقيس أن يكون بمنزلة الخلف والأمام، وهو قول النحويين إلّا من احتج لسيبويه أنه فوق بين دونك ظرفا، وبينه إذا كان بمعنى:
وضيعك، وكذا مرأى ومسمعا كونهما أسماء أكثر، ومع ذلك فإنهم جعلوه اسما خاصا