أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد توفى، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، وقد اجتمع المسلمون على أفضلهم من أنفسهم ولم يكن بينهم اختلاف فى أبى بكر بن أبى قحافة، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، يأمره فى مرضه أن يصلى بالناس، فبايعوا أيها الناس، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.
فقال الأشعث بن قيس: إذا اجتمع الناس، فما أنا إلا كأحدهم، ونكص عن التقدم إلى البيعة، فقال امرؤ القيس بن عابس الكندى: أنشدك الله يا أشعث، ووفادتك على النبى صلى الله عليه وسلم، وإسلامك أن تنقضه اليوم، والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه، فإياك إياك، أبق على نفسك فإنك إن تقدمت تقدم الناس معك، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا، فأبى الأشعث، وقال: قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد، ونحن أقصى العرب دارا من أبى بكر، أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ قال: أى والله، وأحرى أن لا يدعك عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجع إلى الكفر.
قال الأشعث: من قال زياد بن لبيد، فتضاحك، ثم قال: أما يرضى زياد أن أجيره، فقال امرؤ القيس: سترى، ثم قام الأشعث، فخرج من المسجد إلى منزله، وقد أظهر ما أظهره من الكلام القبيح من غير أن يكون نطق بالردة، ووقف يتربص، وقال: نقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها، ونكون من آخر الناس، وبايع زياد بن لبيد لأبى بكر من بعد الظهر إلى أن قامت العصر، فصلى بالناس العصر، ثم انصرف إلى بيته، ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان قبل، وهو أقوى ما كان نفسا، وأشده لسانا، فبينا هو يصدق إلى أن أخذ قلوصا فى الصدقة من فتى من كندة، فلما أمر بها زياد تعقل وتوسم بميسم السلطان، وكان الميسم لله، أتى الفتى، فصاح: يا حارثة بن سراقة «1» ، يا أبا معدى كرب، عقلت البكرة، فأتى حارثة إلى زياد، فقال: أطلق للفتى بكرته، فأبى زياد، فقال:
قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان، فقال حارثة: أطلقها أيها الرجل طائعا، خير من أن تطلقها وأنت كاره، قال زياد: لا والله لا أطلقها ولا نعمت عين. فقام حارثة فحل عقالها وضرب على جنبها، فخرجت القلوص تعدو إلى الأنهار، وجعل حارثة يقول:
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا
... فيا قوم ما شأنى وشأن أبى بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده
... فتلك إذا والله قاصمة الظهر