ثم قال فيها: قاتلاً، ففتح. ولم نسمعه ولا شيئاً من نحوه إلا شاذاً وزعموا أنَّ هذه الأبياتَ من قولِ العرب:
يا نخلَ، ذاتَ السّدرِ والجداولِ
تطاوَلي ما شئتِ أن تطاولِي
إنَّا سنرميكِ بكلِّ بازلِ
رحبِ الفروجِ ليِّنِ المفاصلِ
نخلة: اسم موضع، فرخّمَ. قال أبو عثمان: سمعت أفصحَ الناس ينشدُ هذه الأبيات. وقال صخر الغي:
لو أنَّ أصحابي بنو معاويهْ
أهلُ جنوبِ نخلةَ الشّآميهْ
لم يسلموني للذئابِ العاويهْ
وفي القوافي الإقواءُ والإكفاءُ والسّنادُ والإيطاء.
أمّا الإقواءُ فمعيبٌ. وقد تكلمت به العرب كثيراً. وهو رفع بيتٍ، وجرُّ آخر، نحو قول الشاعر:
لا بأس بالقيوم من طولٍ ومن عظمِ ... جسمُ البغالِ، وأحلامُ العصافيرِ
ثم قال:
كأنَّهم قصبٌ جوفٌ أسافلُهُ ... مثقَّبٌ نفختْ فيه الأعاصيرِّ
جرّ قافية، ورفع أخرى. وقال النابغة:
سقطَ النّصيفُ، ولم تردْ إسقاطهُ، ... فتناولتْهُ واتّقتنا باليدِ
بمخضَّبٍ رخصٍ كأنَّ بنانَه ... عنمٌ يكادُ من اللطافةِ يعقدُ
وقد سمعتُ مثلَ هذا من العربِ كثيراً ما لا يحصى. قلَّ قصيدةٌ ينشدونها إلاَّ وفيها الإقواءُ، ثم لا يستنكرونه، وذلك لأنه لا يكسر الشعر. وكل بيتٍ منها شعرٌ على حياله.
وزعم الخليلُ أن الإكفاءَ هو الإقواءُ. وقد سمعته من غيره من أهل العلم. وسألت العربَ الفصحاءَ عن الإكفاء، فإذا هم يجعلونه الفسادَ في آخر الشعر، والاختلافَ، من غير أن يحدّوا في ذلك شيئاً. إلاّ أنني رأيت بعضهم يجعله اختلاف الحروف وأنشدته:
كأنَّ فا قارورة لم تعفصِ
منها حجاجا مقلةٍ لم تلخصِ
كأنِّ صيرانَ المهَا المنقِّزِ
فقال: هذا إكفاءٌ. وأنشده آخرُ قوافي على رحوف مختلفةٍ، فعابه، ولا أعلمه إلاّ قال: قد أكفأت. إلاّ أنني رأيتهم إذا قربت مخارج الحروف، أو كانت من مخرجِ واحد، ثم اشتدّ تشابهها، لم يفطن لها عامّتهم. والمكفأ في كلامهم هو المقلوب. وإلى هذا يذهبونَ. قال الشاعر، وسمعته من العرب:
ولما أصابتني من الدهرِ نبوةٌ ... شغلتُ، وألهى الناسَ عني شؤونُها
إذا الفارغَ المكفيَّ منهم دعوتُه ... أبرَّ، وكانت دعوةً يستديمُها
فجعل الميم مع النون لشبهها بها، لأنهما يخرجان من الخياشم، وأخبرني من أثق به من أهل العلم أنَّ بنتَ أبي مسافعٍ، امرأةً من العرب، قالت ترثي أباها، وقتل وهو يحمي جيفةَ أبي جهل:
وما ليثُ غريفٍ ذو ... أظافير وإقدامْ
كحبيِّ إذْ تلاقوا، و ... وجوهُ القومِ أقرانْ
وأنتَ الطاعنُ النَّجلا ... ء، منها مزبدٌ آنّ
وفي الكفِّ حسامٌ صا ... رمٌ أبيضُ خذّامُ
وقد ترحلُ بالرَّكبِ ... وما تخننِي بصحبانْ
جمعت بين النوم والميم لقربهما، وهو فيهما كثيرٌ. وقد سمعتُ من العرب مثل هذا مالا أحصي.
وسمعت الباءَ مع اللامِ، والميم مع الراء، كلّ هذا في قصيدة.
قال الشاعر:
ألا قد أرى لم تكن أمُّ مالكٍ ... بملكُ يدي أنَّ البقاءَ قليلُ
وقال فيها:
رأى من رفيقيهِ جفاءَ، وبيعُهُ ... إذا قامَ يبتاعُ القلاصَ ذميمُ
خليليَّ حلاَّ واتركا الرَّحلَ إنَّني ... بمهلكةِ، والعاقباتُ تدورُ
فليناهُ يشري رحله قالَ قائلٌ: ... لمنّ جملٌ رخوُ الملاطِ نجيبُ؟
وهذه القصيدة كلّها على اللامِ. والذي أنشدَها عربيّ فصيحٌ لا يحتشمُ من إنشاده كذا. ونهيناه غير مرة. فلم يستنكر ما يجيء به. ولا أرى قولَ الشاعر:
قد وعدتني أمُّ عمروٍ أن تا
تمسحَ رأسي، وتفلِّيني وا
وتمسحَ القنفاءَ حتَّى تنتَا
إلاَّ على هذا، لأنَّ قوله أن تا أخذ التاءَ من تمسحُ، وكانت مفتوحةَ فزادَ معها الألفَ، ثم أعادها حين قال تمسحُ. وكذلك الذي في وتفلّيني، إنما هي الواو التي في وتمسحُ القنفاءَ جعلَ ما قبل الألف حرف الرّويّ، وخالف بين الحروف، لأنَّ التاء قريبةُ المخرجِ من الواو، وليست بأبعد من الواو من الراء، واللام من الباء في قوله قليلُ وتدور ونجيبُ. وهذا من أقبحِ ما جاءَ، لبعدِ مخارجها.
فأما الميم والنونُ واللام فكثيرٌ. وعلى ذلك قول أبي جهل: