قال الله تبارك وتعالى: (ومن حيث خرجتَ فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (البقرة 150)
ففرض عليهم حيث ما كانوا أن يُوَلُّوا وجوههم شطره، وشطرُهُ جِهَتُهُ في كلام العرب. إذا قلتَ أقصد شطر كذا، معروف أنك تقول: أقصد قصدَ عَينِ كذا، يعني قصدَ نفسِ كذا، وكذلك ((تلقاءه)) جهتَهُ، أي أستقبل تلقاءه، وجهته، وإنَّ كلَّها معنىً واحدٌ، وإن كانت بألفاظ مختلفة.
وقال خُفَافُ بن نُدْبة:
ألا من مبلغ عَمراً رسولاً
... وما تغني الرسالة شَطر عمرو
ص: 35 وقال ساعدة بن جُؤَيَّة:
أقول لأم زِنْبَاعٍ أَقيمي
... صدور العِيس شطر بني تميمِ
وقال لقيط الأيادي:
وقد أظلكُمُ من شطر ثغركُمُ
... هولٌ له ظُلَمٌ تغشاكُمُ قِطَعَا
وقال الشاعر:
إن العسير بها داءٌ مُخامرُها
... فشطرَها بَصَرُ العينين مسحورُ
ص: 36 قال الشافعي: يريد تلقاءها بَصَرُ العينين، ونحوَها: تلقاءَ جهتها.
وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء قَصْدُ عين الشيء: إذا كان معايناً فبالصواب، وإذا كان مُغَيَّبَاً فبالاجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه.
ص: 38 وقال الله: (جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) (الأنعام 97)
(وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون) (النحل 16)
فَخَلَقَ لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركَّبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات. وكل هذا بيان، ونعمة منه جل ثناؤه.
(وأشهدوا ذَوَي عدل منكم) (الطلاق 2) ، وقال: (ممن ترضون من الشهداء) (البقرة 282)
أبان أن العدلَ العاملُ بطاعته، فمن رأوه عاملاً بها كان عدلاً، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل.
وقال جل ثناؤه: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ، ومن قتله منكم متعمداً، فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النَّعَم، يحكمُ به ذوا عدل منكم هدياً بالغَ الكعبة) (المائدة 95)
ص: 39 فكان المِثل - على الظاهر - أقربَ الأشياء شَبَهَاً في العِظَمِ من البدن. واتفقت مذاهب مَن تكلم في الصيد من أصحاب رسول الله على أقرب الأشياء شبهاً من البدن. فنظرنا ما قُتِلَ من دوابِّ الصيد: أيُّ شيء كان من النَّعَم أقربَ منه شَبَهَاً فديناه به.
ولم يحتمل المِثل من النَّعَم القيمةَ فيما له مِثلٌ في البدن من النعم: إلا مستكرهاً باطناً. فكان الظاهر الأعمُّ أولى المعنيين بها. وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الحاكم بالدلالة على المثل.
وهذا الصنف من العلم: دليلٌ على ما وصفْتُ قبلَ هذا على أنْ ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حلَّ ولا حرُم إلا من جهة العلم. وجهةُ العلم الخبرُ: في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس.
ومعنى هذا البابِ معنى القياس؛ لأنه يُطلب فيه الدليل على صواب القبلةِ، والعَدلِ، والمِثل.
ص: 40 والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم، من الكتاب أو السنة؛ لأنهما عَلَمُ الحق المفتَرَضِ طَلَبُهُ، كطلب ما وَصَفتُ قبله، من القبلة والعدل والمثل.
وموافقته تكون من وجهين:
أحدهما: أن يكون الله أو رسوله حرم الشيء منصوصاً، أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنة: أحللناه أو حرمناه؛ لأنه في معنى الحلال أو الحرام.
أو نجد الشيء يشبه الشيءَ منه، والشيءَ من غيره، ولا نجد شيئاً أقربَ به شَبَهَاً من أحدهما: فنلحقه بأَولى الأشياء شَبَهَاً به، كما قلنا في الصيد.
قال الشافعي: وفي العلم وجهان: الإجماع والاختلاف. وهما موضوعان في غير هذا الموضع.
ومن جماع علم كتاب الله: العلمُ بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب.
ص: 41 والمعرفةُ بناسخ كتاب الله، ومنسوخة، والفرْضِ في تنزيله، والأدبِ، والإرشادِ، والإباحةِ.
والمعرفةُ بالموضع الذي وضع الله به نبيه من الإبانة عنه، فيما أحكم فرضه في كتابه، وبينه على لسان نبيه. وما أراد بجميع فرائضه؟ ومن أراد: أكلَّ خلقه أم بعضهم دون بعض؟ وما افترض على الناس من طاعته، والانتهاء إلى أمره.
ثم معرفةُ ما ضرب فيها من الأمثال الدوالِّ على طاعته المبيِّنة لاجتناب معصيته، وتركُ الغفلة عن الحظ، والازديادُ من نوافل الفضل.
فالواجبُ على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا.
وقد تكلم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به، وأقربَ من السلامة له إن شاء الله.
فقال منهم قائل: إن في القُرَآن عربياً وأعجميًا
ص: 42 والقُرَآن يدل على أنْ ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب.
ووجد قائل هذا القول مَن قَبِلَ ذلك منه تقليداً له، وتركاً للمسألة عن حجته، ومسألةِ غيره ممن خالفه.
وبالتقليد أغفلَ من أغفلَ منهم، والله يغفر لنا ولهم.
ولعل من قال: إن في القُرَآن غيرَ لسان العرب، وقُبِلَ ذلك منه ذَهَبَ إلى أن من القُرَآن خاصاً يجهل بعضَه بعضُ العرب.
ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه.
والعلمُ به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيءٌ.
ص: 43 فإذا جُمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرّق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجوداً عند غيره.
وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره.
وليس قليلُ ما ذهب من السنن على من جمع أكثرَها: دليلاً على أن يُطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يُطلب عن نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله - بأبي هو وأمي - فيتفرَّد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وَعَوا منها.
ص: 44 وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها. لا يذهب منه شيء عليها، ولا يُطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قَبِله عنها، ولا يَشرَكها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها.
وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله.
وعِلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من علم أكثر السنن في العلماء.
فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟
فذلك يحتمل ما وصفتُ من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجدُ ينطقُ إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه، فهو تبع للعرب فيه.
ولا ننكر إذ كان اللفظُ قِيل تعلماً، أو نُطِق (45) به موضوعاً: أن يوافقَ لسانُ العجم، أو بعضُها قليلاً من لسان العرب، كما يَاتَفِقُ القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبُعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها.
فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلِطُه فيه غيره؟
فالحجة فيه كتابُ الله قال الله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (إبراهيم 4)
فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بُعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟
ص: 46 فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبَع على التابِع.
وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُهُ لسانُ النبي. ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسانٍ غيرِ لسانه في حرف واحد، بل كلُّ لسان تَبَع للسانه، وكلُّ أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه.
وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه:
قال الله: (وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء 192 - 193)
وقال: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً) (الرعد 37)
وقال: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى، ومَن حولها) (الشورى 7)
ص: 47 وقال: (حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (الزخرف 1 - 3)
وقال: (قرآناً عربياً غيرَ ذي عِوَجٍ لعلهم يتقون) (الزمر 28)
قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كلَّ لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه.
فقال تبارك وتعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر. لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين) (النحل 103)
وقال: (ولو جعلناه أعجمياً لقالوا: لولا فُصِّلت آياته، أعجمي وعربي؟!) (فصلت 44)
قال الشافعي: وعرَّفَنَا نعمه بما خصَّنا به من مكانه، فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤفٌ رحيم) التوبة 128
وقال: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) " الجمعة .
وكان مما عرَّف اللهُ نبيَّه من إنْعامه، أنْ قال: " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (44) " الزخرف ، فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابه.
وقال: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) " الشعراء ، وقال: " لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (7) " الشورى ، وأمُّ القرى: مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذَرين عامة، وقضى أن يُنْذِروا بلسانهم العربي، لسانِ قومه منهم خاصة.