فقال لي قائل: وكف صِرْتَ إلى الأخذ بصلاة النبي ذات الرِّقاع دون غيرها؟
فقلت: أمَّا حديث "أبي عَيَّاش" و"جابر" في صلاة الخوف فكذلك أقول، وإذا كان مثْلُ السبب الذي صلى له تلك الصلاةَ.
قال: وما هي؟
قلت: كان رسولُ الله في ألفٍ وأربعمائة، وكان "خالد بن الوليد" في مائتين، وكان منه بعيداً في صحراءَ واسعةٍ، لا يُطْمَعُ فيه، لقلةِ مَنْ معه، وكثرة مَنْ مع رسول الله، وكان الأغْلَب منه أنَّه مَأْمون على أن يَحْمِل عليه، ولو حمَل مِن بيْن يديْهِ رآه، وقد حُرِسَ منه في السجود، إذْ كان لا يَغِيبُ عنْ طَرْفِهِ.
فإذا كانت الحال بِقِلة العدو وبُعْدِه، وأن لا حائلَ دونه يستره، كما وصفتُ: أمَرْتُ بصلاة الخوف هكذا.
ص: 263 قال: فقال: قد عرفتُ أن الرواية في صلاة ذات الرِّقاع لا تُخالف هذا، لاختلاف الحاليْن، قال: فكيف خالفْتَ حديث "ابن عمر"؟
فقلت له: رواه عن النبي "خوَّات بن جُبَيْر"، وقال "سهل بن أبي حَثْمَة" بِقريب مِن معناه، وحُفِظ عن "علي بن أبي طالب" أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهَرِيرِ كما روى "خوات بن جبير عن النبي، وكان "خواتٌ" مُتَقَدِّمَ الصُّحْبَة والسِّنِّ.
فقال: فهل من حجة أكثرُ مِن تقدُّمِ صحبته؟
ص: 264 فقلت: نعم، ما وصفْتُ: فيه مِن الشَّبَه بمعنى كتاب الله.
قال: فأيْنَ يُوافق كتابَ الله؟
قلت: قال الله: " وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ (102) " النساء .
وقال: " فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " النساء ، يعني - والله أعلم -: فأقيموا الصلاة كما كنتم تصلون في غير الخوف.
فلما فرَّقَ الله بيْن الصلاة في الخوف وفي الأمْنِ، حِياطَةً لأهل دينه أنْ يَنال منهم عدوُّهم غِرَّة: فتعقَّبْنا حديث "خوات بن جبير" والحديث الذي يخالفه، فوجدنا حديث "خوات بن جبير"
ص: 265 أوْلَى بالحَزْمِ في الحَذَر منه، وأحْرَى أن تَتَكَافَأ الطائفتان فيها.
وذلك أنَّ الطائفة التي تصلي مع الإمام أوَّلاً مَحْروسة بطائفة في غير صلاة، والحارس إذا كان في غير صلاة كان مُتَفَرِّغًا مِن فرض الصلاة، قائماً وقاعداً، ومنحرفاً يميناً وشمالاً، وحاملاً إنْ حُمِل عليه، ومتكلِّما إنْ خاف عَجَلَةً مِن عَدُوه، ومُقاتِلاً إنْ أمكنته فرصة، غير محُول بيْنه وبين هذا في الصلاة، ويُخَفِّفُ الإمام بمن معه الصلاةَ إذا خاف حمْلةَ العدُوِّ، بكلام الحارس.
قال: وكان الحقُّ للطائفتين مَعًا سَواءً، فكانت الطائفتان في حديث "خوات" سَواءً، تَحْرُس كلُّ واحِدة مِن الطائفتين الأُخْرى، والحارسة خارِجَة مِن الصلاة، فتكون الطائِفَة الأُولَى قد أعْطَتْ الطائفةَ التي حرستْهَا مِثلَ الذي أخذتْ منها، فحَرَسَتْها خَلِيَّةً مِن الصلاة، فكان هذا عدْلًا بيْن الطائفتين.
قال: وكان الحديث الذي يخالف حديث "خوات بن جبير"، على خِلاف الحَذَر، تَحْرسُ الطائفةُ الأُولى في ركعةٍ، ثم تنصرف المحروسة قبْلَ تُكْمِلَُ (1) الصلاة، فتَحْرُس، ثم تصلي
ص: 266 الطائفة الثانية محروسةً بطائفة في صلاة، ثم يقْضيان جميعاً، لا حارس لهما، لأنه لم يخرج من الصلاة إلا الإمام، وهو وحْده ولا يُعني شيئاً، فكان هذا خِلاف الحذر والقوَّة في المكيدة.
وقد أخبرنا الله أنه فرَّق بين صلاة الخوف وغيرها، نَظَرًا لأهل دينه أنْ لا ينال منهم عدوُّهم غِرَّةً، ولم تأخذ الطائفة الأولى مِن الآخرة مثلَ ما أخذتْ مِنها.
ووجدتُ اللهَ ذكَرَ صلاةَ الإمام والطائفتين مَعًا، ولم يَذْكر على الإمام ولا على واحدة من الطائفتين قَضَاءً، فدل ذلك على أن حال الإمام ومَنْ خلْفه، في أنَّهم يخرجون من الصلاة لا قضاءَ عليهم، سواءٌ.
ص: 267 وهكذا حديث "خوات" وخلافُ الحديث الذي يخالفه.