فإن قال قائل: لِمَ صِرت إلى أن تقول إنَّ نهي النبي أنْ يخطب الرجل على خطبة أخيه: على معنىً دون معنىً؟
فبِالدِّلالة عنه.
فإن قال: فأين هي؟
قيل له - إن شاء الله -: أخبرنا "مالك" عن "عبد الله بن يزيد" مولى "الأسود بن سفيان" عن "أبي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن" عن "فاطمة بنت قَيْسٍ": " أنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ أنْ تَعْتَدَّ فِي
ص: 310 بَيْتِ "ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ"، وَقَالَ: إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلَتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ "مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفْيَانَ" و"أبَا جَهْمٍ" خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: فَأَمَّا "أَبُو جَهْمٍ" فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وأمَّا "مُعَاوِيَةُ" فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، اِنْكِحِي "أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ"، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ، فَقَالَ: اِنْكِحِي" أُسَامَةَ"، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، واغْتَبَطْتُ بِهِ " (1) .
قال "الشافعي": فبهذا قُلْنَا.
ودلَّت سنةُ رسول الله في خِطبته "فاطمةَ" على "أسامة" بعد إعْلامِها رسولَ الله أنَّ "معاوية" و"أبا جهم" خطباها، على أمْرين:
- أحدهما: أنَّ النبي يعلم أنهما لا يخطُبانها إلاَّ وخِطبةُ أحدهما بعد خطبة الآخر، فَلَمَّا لم يَنْهَهَا ولم يَقُلْ لها ما كان لِواحِدٍ
ص: 311 أنْ يَخْطُبَكِ حتى يترك الآخَرُ خِطْبَتَكِ، وخطبها على "أسامة بن زيد" بعد خطبتهما: فاستدللنا على أنها لم ترضى، (2) ولو رَضِيَتْ واحِداً منهما أمرها أن تتزوج مَنْ رضيت، وأن إخبارَها إياهُ بمن خطبها، إنما كان إخباراً عَمَّا لم تأذن فيه، ولعلها استشارةٌ له، ولا يكون أن تستشيره وقد أذِنَتْ بأحدهما.
فلما خطبها على "أسامة" استدللنا على أنَّ الحال التي خطبها فيه غيرُ الحال التي نهى عن خطبتها فيها، ولم تكن حالٌ تُفَرِّقُ بين خطبتها حتى يَحِلَّ بعضها ويحرُمَ بعضها، إلا إذا أذنت للولي أن يزوجها، فكان لزوجها - إن زوَّجها الولي - أن يُلْزِمها التزويجَ، وكان عليه أن يُلزمَه، وحَلَّتْ له، فأما قبل ذلك فحالها واحدة: ليس لوليها أن يزوجها حتى تأذن، فرُكُونها وغيرُ ركونِها سَواءٌ.