قال "الشافعي": فقال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟
فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ.
قال: ومِثْل ماذا؟
قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى
ص: 358 هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه.
وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً (2) عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
ص: 359 وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ.
قال: فما الوجه الثاني؟
قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا.
قال: فيَعْدُو هذا أن يكون واجِبًا وجوبَ العلم قبله؟ أوْ مَوْضوعاً عن الناس عِلْمُه، حتَّى يكونَ مَنْ عَلِمَهُ مُنْتَفِلاً،
ص: 360 ومَنْ تَرَكَ علْمَه غيرَ آثِمٍ بِتركه، أو مِنْ وَجْهٍ ثالثٍ، فتُوجِدُنَاهُ خَبَرًا أو قياسا؟
فقلت له: بلْ هو مِن وجه ثالثٍ.
قال: فصِفْهُ واذْكر الحجَّةَ فيه، ما يَلْزَمُ منه، ومَنْ يَلْزَمُ، وعنْ مَنْ يَسْقُطُ؟
فقلت له: هذه درجةٌ مِن العلم ليس تَبْلُغُها العامَّةُ، ولم يُكَلَّفْهَا كلُّ الخاصَّة، ومَن احتمل بلوغَها مِن الخاصة فلا يَسَعُهُمْ كلَّهم كافةً أنْ يُعَطِّلُوهَا، وإذا قام بها مِن خاصَّتِهم مَنْ فيه الكفايةُ لم يَحْرَجْ غيرُه ممن تَرَكَها، إن شاء الله، والفضْل فيها لمن قام بها على مَنْ عَطَّلَهَا.