قال: فأبِنِ الدِّلالة في أنه إذا قام بعضُ العامَّةِ بالكِفاية أخْرَجَ المُتَخَلِّفينَ مِنَ المَأْثَمِ؟
فقلت له: في هذه الآية.
قال: وأين هو منها؟
ص: 365 قلتُ: قال اللهُ: " وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "، فوَعَدَ المتخلفين عن الجِهاد الحُسْنَى على الإيمان، وأبان فضيلةَ المجاهدين على القاعِدين، ولو كانوا آثمين بالتخلف إذا غَزَا غيرُهم: كانت العقوبة بالإثم - إن لم يعفو اللهُ - أوْلَى بهم مِنَ الحُسنى.
قال: فهل تجد في هذا غيرَ هذا؟
قلت: نعم، قال الله: " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) " التوبة ، وغَزَا رسولُ الله، وَغَزَّى معه مِن أصْحابه جماعةً وخَلَّفَ أُخْرَى، حتى تَخَلَّفَ
ص: 366 "علي بن أبي طالب" في غزوة تبوك، وأخْبَرَنا اللهُ أنَّ المسلمين لم يكونوا لِيَنْفِرُوا كافَّةً: " فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ "، فأخْبَرَ أنَّ النَّفِيرَ على بعضهم دون بعضٍ، وأنَّ التَّفَقُّهَ إنما هو على بعضهم دون بعض.
وكذلك ما عَدَا الفرْضَ في عُظْمِ الفرائض التي لا يَسَعُ جَهْلُها، والله أعْلَمُ.
وهكذا كلُّ ما كان الفرْضُ فيه مَقْصوداً به قصْدَ الكِفاية فيما يَنوبُ، فإذا قام به من المسلمين مَنْ فيه الكفاية خَرَجَ مَنْ تَخَلَّفَ عنه مِنَ المَأْثَمِ.
ولو ضَيَّعُوهُ مَعًا خِفْتُ أنْ لا يَخرج واحِدٌ منهم مُطِيقٌ فيه مِن المأثم، بَلْ لا أشُكُّ، إن شاء الله، لِقوْله: " إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ".
ص: 367 قال: فَمَا معناها؟
قلت: الدِّلالة عليها أنَّ تخلُّفَهمْ عَن النَّفير كافَّةً لا يَسَعُهم، ونَفِيرَ بعْضهم - إذا كانت في نفيره كفايةٌ - يُخْرِجُ مَنْ تَخَلَّفَ مِن المأثم، إن شاء الله، لأنه إذا نَفَرَ بعضُهم وقع عليهم اسم "النَّفِير".