والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون الشيء له في الأصول أشباهٌ، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرِها شَبَهاً فيه. وقد يختلف القايسون في هذا.
قال: فأوجِدني ما أعرف به أن العلم من وجهين: أحدهما: إحاطةٌ بالحق في الظاهر والباطن، والآخر إحاطةٌ بحق في الظاهر دون الباطن: مما أعرفُ؟
فقلت له: أرأيت إذا كنا في المسجد الحرام نرى الكعبة: أَكُلِّفْنا أن نستقبلها بإحاطة؟
قال: نعم.
قلت: وفُرِضَت علينا الصلوات والزكاة والحج، وغير ذلك: أَكُلِّفنا الإحاطةَ في أن نأتي بما علينا بإحاطةٍ؟
قال: نعم.
قلت: وحين فُرِض علينا أن نجلدَ الزاني مائة، ونجلدَ القاذف ثمانين، ونقتلَ مَن كَفَرَ بعد إسلامه، ونقطع من سرق: أَكُلِّفْنا أن نفعل هذا بمن ثبت عليه بإحاطةٍ نعلم أنا قد أخذناه منه؟
قال: نعم.
ص: 481 قلت: وسواءٌ ما كُلِّفنا في أنفسنا وغيرِنا، إذا كنا ندري من أنفسنا بأنّا نعلم منها ما لا يعلم غيرنا، ومن غيرنا ما لا يدركه علْمُنا كإدراكنا العلمَ في أنفسنا؟
قال: نعم.
قلت: وكُلِّفْنا في أنفسنا أين ما كُنا أن نَتَوَجه إلى البيت بالقبلة؟
قال: نعم.
قلت: أفتجدنا على إحاطةٍ من أنا قد أصبنا البيت بتوجهنا؟
قال: أما كما وجدتكم حين كنتم ترون فلا، وأما أنتم فقد أدَّيتم ما كُلِّفتم.
قلت: والذي كُلفنا في طلب العين المغيَّب غيرُ الذي كُلِّفنا في طلب العين الشاهد. ِ
ص: 482 قال: نعم.
قلت: وكذلك كُلفنا أن نقبل عدل الرجل على ما ظهر لنا منه، ونناكحَه ونوارثَه على ما يظهر لنا من إسلامه؟
قال: نعم.
قلت: وقد يكون غير عدل في الباطن؟
قال: قد يمكن هذا فيه، ولكن لم تُكَلفوا فيه الا الظاهر.
قلت: وحلالٌ لنا أن نناكحه، ونوارثه، ونجيز شهادته، ومحرمٌ علينا دمه بالظاهر؟ وحرامٌ على غيرنا إن عَلم منه أنه كافر إلا قتلَه ومنعَه المناكحةَ والموارثةَ وما أعطيناه؟
قال: نعم.
قلت: وُجِدَ الفرض علينا في رجل واحد مختلفاً على مبلغ علمنا وعلم غيرنا؟
ص: 483 قال: نعم، وكلكم مؤدي ما عليه على قدر علمه.
قلت: هكذا قلنا لك فيما ليس فيه نص حكم لازمٍ، وإنما نطلب باجتهادِ القياسِ، وإنما كُلفنا فيه الحقَّ عندنا.