فإن قيل: هذا معارض بما يدل على أَنَّ اطِّراد الْعَوَائِدِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلْ إِنْ كَانَ فَمَظْنُونٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنَّ اسْتِمْرَارَ أَمْرٍ فِي الْعَالَمِ مساوٍ لِابْتِدَاءِ وَجُودِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِمْدَادِ الْمُسْتَمِرِّ، وَالْإِمْدَادُ مُمْكِنٌ أَنْ لَا يُوجَدَ، كَمَا أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي الزَّمَنِ١ الْأَوَّلِ كان ممكنا فلما وجد حَصَلَ أَحَدُ طَرَفَيِ الْإِمْكَانِ مَعَ جَوَازِ بَقَائِهِ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، فَكَذَلِكَ وَجُودُهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي مُمْكِنٌ، وَعَدَمُهُ كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ إِمْكَانِ عَدَمِ اسْتِمْرَارِ وَجُودِهِ الْعِلْمُ بِاسْتِمْرَارِ وَجُودِهِ، هَلْ هَذَا إِلَّا عَيْنُ الْمُحَالِ؟
وَالثَّانِي:
إِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ فِي الْوُجُودِ غَيْرُ قَلِيلٍ، بَلْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَلَا سِيَّمَا مَا جَرَى عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا انْخَرَقَ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِي الْأُمَمِ قَبْلَهَا مِنَ الْعَادَاتِ، وَالْوُقُوعُ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، فَهُوَ أَقْوَى في الدلالة، فإذن لا يصح أن أَنْ يَكُونَ مَجَارِيَ الْعَادَاتِ مَعْلُومَةً الْبَتَّةَ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ غَيْرُ مُنْدَفِعٍ عَقْلًا، وَإِنَّمَا انْدَفَعَ بِالسَّمْعِ الْقَطْعِيِّ، وَإِذَا انْدَفَعَ بِالسَّمْعِ وَهُوَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، لَمْ يُفِدْ حُكْمَ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا تَعَارُضٌ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَهُوَ مُحَالٌ.
لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا يَكُونُ مُحَالًا إِذَا تَعَارَضَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هُنَا، بَلِ الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ هُنَا باقٍ عَلَى حُكْمِهِ فِي أَصْلِ الْإِمْكَانِ، وَالِامْتِنَاعِ السَّمْعِيِّ رَاجِعٌ إِلَى الْوُقُوعِ، وَكَمْ مِنْ جَائِزٍ غَيْرُ وَاقِعٍ؟!
وَكَذَلِكَ نَقُولُ: "الْعَالَمُ كَانَ قَبْلَ وُجُودِهِ مُمْكِنًا أَنْ يَبْقَى على أصله من العدم
١ في "ط": "الزمان".