الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ لَمْ يَقَعْ١ فِيهَا نَسْخٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ فِي أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ بِدَلِيلِ الِاسْتِقْرَاءِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَعُودُ بِالْحِفْظِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ ثَابِتٌ، وَإِنْ فُرِضَ نَسْخُ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا؛ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْحِفْظِ، وَإِنْ فُرِضَ النَّسْخُ فِي بَعْضِهَا إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ؛ فَأَصْلُ الْحِفْظِ باقٍ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ رَفْعُ الْجِنْسِ.
بَلْ زَعَمَ الْأُصُولِيُّونَ٢ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ مُرَاعَاةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَوْجُهُ الْحِفْظِ بِحَسَبِ كُلِّ مِلَّةٍ، وَهَكَذَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ فِي الْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ٣ اللَّهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الشورى: ١٣ .
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الْأَحْقَافِ: ٣٥ .
وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ٤ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الْأَنْعَامِ: ٩٠ .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} الآية المائدة:
١ هذا الكلام سبق، ولكنه أعاده مقدمة لقوله بعد: "بل زعم الأصوليون"، واستدلاله بالآيات على كلام الأصوليين. "د".
٢ انظر: "تعليل الأحكام" "٢٨٥" للشلبي، و"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" "ص١٥٥" ليوسف العالم.
٣ ففي الآية الأولى إقامة أصل الدين وعدم التفرق فيه، وفي الثانية الصبر وهو من مكارم الأخلاق، وهكذا الآيات بعدها فيها أصول الصلاة، والصيام، وإنفاق المال للفقراء، والقصاص "د".
٤ في "ط": "كثيرا".