ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الْبَيَانَ الْمُنْتَظَرَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} الْبَقَرَةِ: ٢٦ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أُنْزِلَ بِقَصْدِ الْإِضْلَالِ لِقَوْمٍ وَالْهِدَايَةِ لِقَوْمٍ، أَيْ: هُوَ هُدًى كَمَا قَالَ أَوَّلًا {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} الْبَقَرَةِ: ٢ ، لَكِنَّ الْفَاسِقِينَ١ يَضِلُّونَ بِنَظَرِهِمْ إلى غيرهم الْمَقْصُودِ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، كَذَلِكَ هُوَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَوْبِ الْحَقِيقَةِ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ مِنْ أَجْلِهِ، وَهَذَا الْمَكَانُ يُسْتَمَدُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى٢، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ صَارَتِ النِّعَمُ نِعَمًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَكَوْنُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَخْذِهِمْ لَهَا عَلَى غَيْرِ الصَّوْبِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى الْقَصْدِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ هُوَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ٣؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَادِمٌ لِمَا يُضَادُّ الْمَطْلُوبَ الْفِعْلِ؛ صَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا قَطْعُ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ ينتظر حصوله منه على الخصوص؛ فسماع٤ الْغِنَاءُ الْمُبَاحُ مَثَلًا لَيْسَ بِخَادِمٍ لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ وَلَا تَكْمِيلِيٍّ، بَلْ قَطْعُ الزَّمَانِ بِهِ صَدٌّ عَمًّا هُوَ خَادِمٌ٥ لِذَلِكَ؛ فَصَارَ خَادِمًا لِضِدِّهِ.
وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اللَّهْوِ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّارِعُ بَاطِلًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} الْجُمُعَةِ: ١١ ، يَعْنِي: الطبل أو المزمار أو الغناء.
١ في "ط": "الفاسقون".
٢ حيث تقرر فيها أن الإرادة جاءت على معنيين: قدرية، وأمرية، وأنه تعالى أعان أهل الطاعة؛ فجاء فعلهم على وفق الإرادتين، ولم يعن أهل المعصية؛ فجاء فعلهم على وفق الأولى فقط، وتقدم له إشارة إليه آنفًا في قوله: "وكل بقضاء الله وقدره". "د".
٣ أي: وإن كان لا حرج في جزئيه بالقصد الثاني، بل قد يكون مطلوبًا بهذا القصد. "د".
٤ هكذا في الأصل، وفي غيره: "فصار".
٥ لم يقل: "صد عن هذه الأمور الثلاثة"؛ لأنه لو كان كذلك لكان منهيًّا عنه بالجزء أيضًا لا بالكل فقط، وإنما هو معطل للمباحات الأخرى من طريق الكسب وغيرها، الخادمة للمراتب الثلاثة، فيكون خادمًا لضد هذه المراتب، فكان مذمومًا بالقصد الأول. "د".