الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي التَّأْكِيدِ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّلَبِ الْفِعْلِيِّ أَوِ التَّرْكِيِّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالْمَفَاسِدِ النَّاشِئَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ.
وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُتَصَوَّرُ انْقِسَامُ الِاقْتِضَاءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالتَّحْرِيمُ.
وَثَمَّ اعْتِبَارٌ آخَرُ لَا يَنْقَسِمُ فِيهِ ذَلِكَ الِانْقِسَامِ، بَلْ يَبْقَى الْحُكْمُ تَابِعًا لِمُجَرَّدِ الِاقْتِضَاءِ، وَلَيْسَ لِلِاقْتِضَاءِ إِلَّا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ.
وَالْآخَرُ: اقْتِضَاءُ التَّرْكِ.
فَلَا فَرْقَ فِي مُقْتَضَى الطَّلَبِ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَلَا بَيْنَ مَكْرُوهٍ وَمُحَرَّمٍ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ جَرَى عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنِ اطَّرَحَ مُطَالَبَ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَأَخَذَ بِالْحَزْمِ وَالْعَزْمِ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ؛ إِذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا، وَلَا بَيْنَ مَكْرُوهٍ وَمُحَرَّمٍ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا، بَلْ رُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْدُوبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى السَّالِكِ، وَعَلَى الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَدُّوا الْمُبَاحَاتِ مِنْ قَبِيلِ الرُّخَصِ كَمَا مَرَّ١ فِي أَحْكَامِ الرُّخَصِ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا هذا المأخذ من طريقين:
١ في الإطلاق الرابع للرخصة، وهو أن كل ما كان توسعة على العباد مطلقًا؛ فهو رخصة، والعزيمة هي الأولى التي نبه عليها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذَّارِيَاتِ: ٥٦ ؛ فالأصل أنهم ملك، وليس لهم عليه من حق ولا حظ، بل عليهم التوجه الكلي لعبادته، وترك كل ما يشغل عنها حتى من المباحات؛ فالإذن لهم في نيل حظوظهم رخصة وتوسعة. "د".