الْبَيَانِ مَقَامَ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَالْفِعْلُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَهُوَ يَقْصُرُ عَنِ الْقَوْلِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بَيَانٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَشْخَاصِ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ ذُو صِيَغٍ تَقْتَضِي هَذِهِ الْأُمُورَ وَمَا كَانَ نَحْوَهَا، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَعَلَى زَمَانِهِ، وَعَلَى حَالَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَدٍّ عَنْ مَحَلِّهِ أَلْبَتَّةَ، فَلَوْ تُرِكْنَا وَالْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَثَلًا؛ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا مِنْهُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَعَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
فَيَبْقَى عَلَيْنَا النَّظَرُ: هَلْ يَنْسَحِبُ طَلَبُ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ، أَوْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهَذَا الزَّمَانِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ، أَوْ يَكُونُ حُكْمُ أُمَّتِهِ حُكْمَهُ؟
ثُمَّ بَعَدَ النَّظَرِ فِي هَذَا يَتَصَدَّى نَظَرٌ آخَرُ فِي حُكْمِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ: مِنْ أَيِّ نَوْعٍ هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؟
وَجَمِيعُ ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ لَا يَتَبَيَّنُ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَاصِرٌ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ إِقَامَةُ الْفِعْلِ مَقَامَ الْقَوْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا بَيِّنٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ١ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الْأَحْزَابِ: ٢١ ، وَقَالَ حِينَ بَيَّنَ بِفِعْلِهِ الْعِبَادَاتِ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" ٢، وَ "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" ٣، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِيَسْتَمِرَّ الْبَيَانُ إِلَى أقصاه.
١ أي: ففعله لم يكف في طلب الاقتداء به فيه؛ لأن الفعل لا يدل على انسحابه على أمته كما قال؛ فاحتاج الأمر لبيان ذلك بالقول بهذه الآية، وبالأحاديث التي تذكر في مواضعها ليتبين الأمر من الجهتين أنه عام لهم، وأن كيفيته كما رأوا. "د".
٢ أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإمامة، ٢/ ١١١/ رقم ٦٣١" عن مالك بن الحويرث, رضي الله عنه.
٣ مضى تخريجه "٣/ ٢٤٦"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم ١٢٩٧" وغيره.