وَصَارَ مَظِنَّةً لِلِاتِّبَاعِ عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْمُجَادِلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخَوَارِجُ فِتْنَةً عَلَى الْأُمَّةِ؛ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ جَادَلُوا بِهِ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَوَثَّقُوا تَأْوِيلَاتِهِمْ بِمُوَافَقَةِ الْعَقْلِ١ لَهَا؛ فَصَارُوا فِتْنَةً عَلَى النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ -بِمَا مَلَكُوا٢ مِنَ السَّلْطَنَةِ عَلَى الخلق- قدروا٣ عَلَى رَدِّ الْحَقِّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلِ حَقًّا، وَأَمَاتُوا سُنَّةَ اللَّهِ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الشَّيْطَانِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا؛ فَمَعْلُومٌ فِتْنَتُهَا لِلْخَلْقِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَقْوَى فِي التَّأَسِّي وَالْبَيَانِ إِذَا جَامَعَتِ الْأَقْوَالَ مِنِ انْفِرَادِ الْأَقْوَالِ، فَاعْتِبَارُهَا فِي نَفْسِهَا لِمَنْ قَامَ فِي مَقَامِ الِاقْتِدَاءِ أَكِيدٌ لَازِمٌ٤، بَلْ يُقَالُ: إِذَا اعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ مَنْ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَمَنْزِلَةِ التَّبْيِينِ؛ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَا هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ اعْتِبَارَيْنِ٥:
أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَفَصَّلُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ.
وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ صَارَ فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَحْوَالُهُ بَيَانًا وَتَقْرِيرًا لِمَا شَرَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا انْتَصَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَالْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُحَرَّمٌ، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُبَيِّنٌ، وَالْبَيَانُ وَاجِبٌ لَا غير، فإذا
١ قال "ف": "أي: بزعمهم موافقة العقل لها، وإلا؛ فالعقول السليمة تنبو عنها".
قلت: هي في "ط": "الفعل"، ولكنها في الأصل: "العقل"، وهو أظهر.
٢ في "ط": "يملكون".
٣ في "د": "وقدروا" بزيادة واو في أوله. وفي "ط": "قروا".
٤ ترق على ما فرض فيه الكلام أولًَا من الواجب والحرام إلى التعميم في الأحكام الخمسة، ومن خصوص البيان بالأفعال إلى البيان مطلقًا بالأقوال والأفعال. "د".
٥ انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "١/ ١٣٧-١٣٨".