الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
إِذَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ التَّرْغِيبُ قَارَنَهُ التَّرْهِيبُ فِي لَوَاحِقِهِ أَوْ سَوَابِقِهِ أَوْ قَرَائِنِهِ١ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيَةُ مَعَ التَّخْوِيفِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مِثْلُهُ، وَمِنْهُ ذِكْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُقَارِنُهُ ذِكْرُ أَهْلِ النَّارِ، وَبِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْمَالِهِمْ تَرْجِيَةٌ، وَفِي ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ تَخْوِيفًا؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْجِيَةِ وَالتَّخْوِيفِ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَرْض الْآيَاتِ عَلَى النَّظَرِ؛ فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَمْدَ فَاتِحَةَ كِتَابِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الْفَاتِحَةِ: ٦-٧ إِلَى آخِرِهَا.
فَجِيءَ بِذِكْرِ الفريقين، ثم بُدئت سورة البقرة بذكرهما أيضًا؛ فقيل: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} البقرة: ٢ .
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} الْبَقَرَةِ: ٦ .
ثُمَّ ذُكر بِإِثْرِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَهُوَ صِنْفٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، ثُمَّ بِالتَّخْوِيفِ بِالنَّارِ، وَبَعْدَهُ بِالتَّرْجِيَةِ؛ فَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ الْبَقَرَةِ: ٢٤-٢٥ .
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ
١ كما في الآيات المشتملة عليهما معًا، ومن أظهرها في ذلك قوله تعالى في سورة الدهر: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ... } إلى قوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} الإنساء: ٥-١١ . "د".