وَقِسْمٌ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِنْزَالِهِ، وَخِطَابِ الْخَلْقِ بِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالْحُسْنَى مِنْ جَعْلِهِ عَرَبِيًّا يَدْخُلُ تَحْتَ نَيْلِ أَفْهَامِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ الْمُنَزَّهُ الْقَدِيمُ، وَكَوْنُهُ تَنَزَّلَ لَهُمْ بِالتَّقْرِيبِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعْلِيمِ فِي نَفْسِ الْمُعَامَلَةِ بِهِ، قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى مَا حَوَاهُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْخَيْرَاتِ، وَهَذَا نَظَرٌ خَارِجٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعُلُومِ، وَيَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّخَلُّقِ١ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ.
وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَوَائِدِ الْفَرْعِيَّةِ، وَالْمَحَاسِنِ الْأَدَبِيَّةِ؛ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أَمْثِلَةً يُسْتَعَانُ بِهَا فِي فَهْمِ الْمُرَادِ:
- فَمِنْ ذَلِكَ: عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ قَبْلَ الْإِنْذَارِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الْإِسْرَاءِ: ١٥ ؛ فَجَرَتْ عَادَتُهُ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، فَإِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الْكَهْفِ: ٢٩ ، وَلِكُلٍّ جَزَاءُ مِثْلِهِ.
- وَمِنْهَا: الْإِبْلَاغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَا خَاطَبَ بِهِ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بُرْهَانًا فِي نَفْسِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا فِيهِ، وَزَادَ عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا فِي بَعْضِهِ الْكِفَايَةُ٢.
- وَمِنْهَا: تَرْكُ الْأَخْذِ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِالذَّنْبِ، وَالْحِلْمُ عَنْ تعجيل المعاندين
١ قرر ابن تيمية في "الصفدية" "٢/ ٣٣٧"، وابن القيم في "بدائع الفوائد" "١/ ١٦٤" و"عدة الصابرين" "٣٦" أن هذه العبارة غير سديدة، وأنها منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله على قدر الطاقة، وبينا أن هذا مسلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما من ملاحدة الصوفية، وصار ذلك مع ما ضموا إليه من البدع والإلحاد موقعًا لهم في الحلول والاتحاد، وذكرا أن الأحسن من هذه العبارة التعبد، وأحسن منها -بالعبارة المطابقة للقرآن- وهي الدعاء، المتضمن للتعبد والسؤال.
٢ في "ف": "ما فيه"، وقال: "لعله "ما في بعضه الكفاية".