أَمَّا هَذَا الثَّانِي، فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافًا؛ إِذْ لَوْ فَرَضْنَا اطِّلَاعَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ لَرَجَعَ١ عَنْ قَوْلِهِ، فَلِذَلِكَ يُنْقَضُ لِأَجْلِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي.
أَمَّا الْأَوَّلُ، فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ تَحَرٍّ٢ لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْمُسْتَبْهَمِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَاتِّبَاعٌ لِلدَّلِيلِ الْمُرْشِدِ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِهِ، وَقَدْ تَوَافَقُوا فِي هَذَيْنِ الْقَصْدَيْنِ تَوَافُقًا لَوْ ظَهَرَ مَعَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا رَآهُ لَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَلَوَافَقَ صَاحِبَهُ فِيهِ، فَقَدْ صَارَ هَذَا الْقِسْمُ فِي الْمَعْنَى رَاجِعًا إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي٣، فَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا فِي الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُ الْمُجْتَهِدِ عَمَّا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِغَيْرِ بَيَانٍ اتِّفَاقًا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا بالتخطئة أم قلنا بالتصويب، إذا لا يصح للمجتهد أن يعمل على
١ وقد وقع ذلك من مالك وغيره من المجتهدين، فكل مجتهد منهم لقي مجتهدًا آخر، واطلع على أدلة لم تكن عنده رجع عن رأيه، كما في مسألة تخليل أصابع الرجلين كان مالك يقول: "إنه تعمق في الوضوء"، فلما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام كان يفعله رجع إلى استحبابه١، وَكَمَا اتَّفَقَ لِأَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي المد والصاع حتى رجع لموافقة مالك، وكما سبق قريبًا عن ابن عباس وعن الأنصار أيضًا. "د".
٢ لا يخفى أن التردد بين الطرفين وصف للفعل نفسه وليس من عمل المجتهد، والذي للمجتهد هو الرد على أحدهما، بتحريه الدليل المرشد إلى أخذ الفعل حكم أحد الطرفين دون الآخر، فالعبارة -كما ترى- فيها ركة ونبو عن هذا المقصود، ولو قال: "فالرد إلى أحد الطرفين تحر ... إلخ"، لكان جيدًا، وقوله: "هذين القصدين" هما في الحقيقة قصد واحد، وهو الوصول إلى قصد الشارع باتباع الدليل المرشد إلى تعرفه. "د".
٣ فإن مخالفة أحدهما لقصد الشارع في الواقع -بناء على اتحاد الحكم، وأن من أصابه، ومن أخطأه أخطأ- إنما ترتبت على استبهام الدليل وخفائه عليه. "د".