وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الْعِلْمَ بِوُقُوعِ الْمُسَبَّبُ عن السبب -وإن ثبت أنه يقوم١ الْقَصْدِ إِلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ- فَإِنَّمَا هُوَ جارٍ مَجْرَى الْقَصْدِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ أَعْنِي: فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ بِالتَّسَبُّبِ متعدٍّ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ قَاصِدٌ لِلْمَفْسَدَةِ الْوَاقِعَةِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَاهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، وَإِذَا٢ كَانَ غَيْرَ قَاصِدٍ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ هُنَا فِي حَقِّ الشَّارِعِ، إِذْ هُوَ قَاصِدٌ نَفْسَ الْمَصْلَحَةِ لَا مَا يَلْزَمُ فِي طَرِيقِهَا مِنْ بَعْضِ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَيْضًا، لَوْ لَزِمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ مَفْسَدَةٌ فِي طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ قَصْدُهُ إِلَى إِيقَاعِ الْمَفْسَدَةِ شَرْعًا، لَزِمَ بُطْلَانُ مَا تَقَدَّمَ الْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْمَصَالِحِ لَا لِلْمَفَاسِدِ، وَلَزِمَ فِي خُصُوصِ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ٣ وَإِيقَاعِهَا مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ بَاطِلٌ عَقْلًا وَسَمْعًا.
وَأَيْضًا؛ فَلَا يَمْتَنِعُ قَصْدُ الطَّبِيبِ لِسَقْيِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ المتآكلة، وقلع الأضراس الوجعة، وبط الجراحات الواجعة ٤، وَأَنْ يَحْمِيَ الْمَرِيضَ مَا يَشْتَهِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ إِذَايَةُ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هو٥
١ أي: فقد يكون عالما بالمسبب ولا يقصده، وإنما يقصد نفع نفسه فقط بقطع النظر عن كونه يلزمه التعدي على الغير بمفسدة تلحقه، ولكن الشارع في هذه الحالة يجعله كأنه قاصد له، ويلزمه نتيجة التعدي على الغير، ويقيم علمه بوقوع المسبب مقام القصد إليه، فالشارع هنا أيضا، وإن كان عالما بالمفسدة التي تكون في طريق المصلحة، لكنه لا يقصدها". "د".
٢ في الأصل: "وإن".
٣ أي: بأدلة قصده التخفيف واليسر ونحو ذلك، وقوله: "وإيقاعها"، أي: بمقتضى هذا الاعتراض الثاني. "د".
٤ ما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة و"ط".
٥ في الأصل: "هي".