الْمَصْلَحَةُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَأَشَدُّ١ فِي الْمُرَاعَاةِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِيذَاءِ الَّتِي هِيَ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ، وَهَذَا شَأْنُ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ التَّكْلِيفُ عَلَى وَجْهٍ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَصْلَحَةُ، فَالتَّكْلِيفُ أَبَدًا جارٍ عَلَى هَذَا الْمَهْيَعِ، فَقَدْ عُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ يُنْهَى عَنْهَا، فَإِذَا أَمَرَ بِمَا تَلْزَمُ عَنْهُ فَلَمْ يَقْصِدْهَا، إِذْ لَوْ كَانَ قَاصِدًا لَهَا لَمَا نَهَى عَنْهَا، وَمِنْ هُنَا لَا يُسَمَّى مَا يَلْزَمُ عَنِ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّاتِ مَشَقَّةً عَادَةً.
وَتَحْصِيلُهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُعْتَادَاتِ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَا يَلْزَمُ عَنِ التَّكْلِيفِ٢ لَا يُسَمَّى مَشَقَّةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهَا يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهَا أَوِ الْقَصْدَ إِلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ الثَّوَابَ حَاصِلٌ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا لُزُومًا عَنْ مُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ، وَبِهَا حَصَلَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كالمقصودة، لَا أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ مُطْلَقًا، فَرَتَّبَ الشَّارِعُ فِي مُقَابَلَتِهَا أَجْرًا زَائِدًا عَلَى أَجْرِ إِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّصَب مَطْلُوبٌ أَصْلًا٣، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْمَشَقَّاتِ وَإِنْ لَمْ تَتَسَبَّبْ عَنِ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ، كَمَا يُؤَجَرُ٤ الْإِنْسَانُ وَيُكَفَّرُ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِسَبَبِ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْمَشَقَّاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَب وَلَا نَصَب وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَن حَتَّى الشَّوْكَةٍ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" ٥ وَمَا أشبه ذلك.
١ في "ط": "أعظم وآكد".
٢ في ط: "التكاليف".
٣ انظر كلاما قويا حول هذا في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "١٠/ ٦٢١-٦٢٣".
٤ التكفير صريح الحديث، لكن من أين الأجر على مجرد ما يلحقه بدون عمل له كالصبر؟ "د".
٥ أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، ١٠ =