كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَيْسَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ١ يُسَاوِي إِسْبَاغَهُ فِي الزَّمَانِ الْحَارِّ، وَلَا الْوُضُوءُ مَعَ حَضْرَةِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فِي اسْتِقَائِهِ يُسَاوِيهِ مَعَ تَجَشُّمِ طَلَبِهِ أَوْ نَزْعِهِ مِنْ بِئْرٍ بَعِيدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ فِي قِصَرِ اللَّيْلِ أَوْ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، مَعَ فِعْلِهِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّه فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ٢ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الْعَنْكَبُوتِ: ١٠ بَعْدَ قَوْلِهِ:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} الْعَنْكَبُوتِ: ٢ إِلَى آخِرِهَا.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} الْأَحْزَابِ: ١٠-١١ .
ثُمَّ مَدَحَ اللَّهُ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَصَدَقَ فِي وَعْدِهِ بِقَوْلِهِ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الْأَحْزَابِ: ٢٣ .
وَقِصَّةُ٣ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي تَخَلُّفِهِمْ عن غزوة
١ جمع سَبْرة، بفتح، فسكون: وهي الغداة الباردة. "د".
٢ أي: فالإيمان قد يستتبع الوفاء بواجباته مشقات وفتنًا يجب الصبر عليها، ولا تعد خارجة عن المعتاد في موضوع الإيمان، وهو من أعمال التكليف، وآية الأحزاب فيها مشقة الجهاد دفاعا عن الدين، وطبيعة الجهاد تقتضي مثل هذه المشقة ولا تكون خارجة عن المعتاد في الجهاد، وإن كانت هي في نفسها شاقة، ومدحهم بالصدق فيما عاهدوا الله عليه يقتضي أن ذلك من لوازم عقد الإيمان، وأنه يلزمه الصبر على المشقات بالجهاد وغيره في سبيل المحافظة عليه. "د".
٣ أخرجها البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، ٨/ ١١٣/ رقم ٤٤١٨"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه ٤/ ٢١٢٠/ رقم ٢٧٦٩"، وأحمد في "المسند" "٣/ ٤٥٤ و٤٥٦-٤٥٩"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، ٤/ ١٩٩/ رقم ٤٦٠٠" مختصرا، وسقتها مع تخريجها في كتابي "الهجر في الكتاب والسنة" "ص١٥٧-١٥٩".