قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْآخَرِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَرَى أَيْضًا تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ، إذَا كَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ.
وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الَّذِي يُعَضِّدُهُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ، إذَا عَارَضَ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ، وَيَكُونُ لِهَذَا الْقِيَاسِ ضَرْبٌ مِنْ الرُّجْحَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» .
وَقَدْ يَقْوَى أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ بِأَنْ يُعَضِّدَهُ أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا لِضَعْفِ مُخَرِّجِهِ، فَإِذَا عَاضَدَ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ صَارَ لِهَذَا الْقِيَاسِ مَزِيَّةٌ وَرُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ بِهَذَا الْخَبَرِ، فَيَكُونُ أَوْلَى.
وَإِذَا اعْتَلَّ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ (بِعِلَّةٍ) لِحُكْمٍ، وَاعْتَلَّ الْآخَرُ (بَعْدَ ذَلِكَ لِحُكْمٍ) بِعِلَلٍ مِنْ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الْحُكْمَ الَّذِي عَضَّدَتْهُ عِلَّتَانِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ شَهِدَتْ لَهَا أُصُولٌ كَثِيرَةٌ، وَالْأُخْرَى شَهِدَ لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْعِلَّةَ الْوَاحِدَةَ مُعَارِضَةً لِلْعِلَلِ الْكَثِيرَةِ، وَلَا يُوجِبُ التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ يَحْتَمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ.
وَإِذَا تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ إحْدَاهُمَا مُثْبِتَةٌ، وَالْأُخْرَى نَافِيَةٌ، فَلَا مَزِيَّةَ لِلْمُثْبِتَةِ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى لِأَجْلِ الْإِثْبَاتِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يَطْلُبَ وَجْهَ التَّرْجِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ لِأَنَّ نَفْيَهُ الْحُكْمَ هُوَ حُكْمٌ مِنْ النَّافِي، وَإِثْبَاتُ اعْتِقَادٍ مِنْهُ بِصِحَّةِ نَفْيِهِ، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا: إنَّ النَّافِيَ وَالْمُثْبِتَ مُتَسَاوِيَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ.
وَمَتَى اعْتَدَلَ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ الْقِيَاسَانِ جَمِيعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ ضِدَّ الْآخَرِ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى وُجُودَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إذَا كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ الْحُكْمِ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، اسْتَحَالَ أَنْ يُخْلِيَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُجْتَهِدَ مِنْ أَنْ يَغْلِبَ فِي ظَنِّهِ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا، فَيَصِيرَ إلَيْهِ.