بَابُ الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَأَجَازَهُ أَصْحَابُنَا إذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ مَجِيئًا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ.
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهَا هِيَ مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَيُوجِبُ الْعِلْمَ، نَحْوُ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَيْضًا.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ جَوَازَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} النحل: 44 ، وَالنَّسْخُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ (فِي) تَوَهُّمِنَا بَقَاؤُهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُنَا لَهُ، فَانْتَظَمَ قَوْلُهُ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} النحل: 44 سَائِرَ وُجُوهِ الْبَيَانِ، فَلَمَّا كَانَ النَّسْخُ ضَرْبًا مِنْ الْبَيَانِ وَجَبَ أَنْ تَسْتَوْعِبَهُ الْآيَةُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمُرَادُ بِهِ إظْهَارُ مَا أُنْزِلَ وَتَبْلِيغُهُ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا أَحَدُ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، وَلَمْ يَنْفِ غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ ضُرُوبِ الْبَيَانِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ ضَرْبًا مِنْ الْبَيَانِ، وَلَمْ يَكُنْ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرِ بِإِظْهَارِ، وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ مَانِعًا مِنْ دُخُولِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ تَحْتَهُ.