إلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} الأنعام: 90 فَكَانَ دَاوُد مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسَجَدَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} الأنعام: 90 رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ اسْتِدْلَالَ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} الأنعام: 76 ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الأنعام: 83 ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} الأنعام: 90 يَعْنِي فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتِعْمَالِ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى لُزُومِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ شَرَائِعِ مِثْلِهِ، الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ أَحْكَامُ الْأُمَمِ فِيهَا.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ، وَقَدْ أُمِرَ بِاقْتِدَائِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَسَاوَى الْجَمِيعُ فِي تَكْلِيفِهِ: مِنْ التَّوْحِيدِ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَنَحْوِهِ، مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ شَرَائِعَهُمْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِهَا، لِاسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي الْأَزْمَانِ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَتَبْدِيلُهُ مِمَّا فِي الْعُقُولِ إيجَابُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً