الْفَصْلِ ضَرْبًا مِنْ الِاجْتِهَادِ، تَقْوَى مَعَهُ فِي النَّفْسِ بَقَاءُ حُكْمِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَبْوَابِ النَّسْخِ: مَا كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا: إنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ أَوْلَى، وَاحْتِجَاجَهُ لَهُ، بَلْ الْإِبَاحَةُ لَمَّا كَانَتْ هِيَ الْأَصْلُ، وَالْحَظْرُ طَارِئٌ عَلَيْهِ، كَانَ حُدُوثُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مُتَيَقَّنًا، وَلَسْنَا نَتَيَقَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ حُدُوثَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ.
وَذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الصَّيْدِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَنَحْوُ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» وَمَا رُوِيَ فِي " إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَيْهَا " وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
وَحَكَيْنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ: بِأَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّامِعِ رَأْيٌ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ: أَنَّهُ يَسْقُطُ خَبَرُهُمَا جَمِيعًا، وَيَكُونُ الْمَاءُ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ.
وَبَيَّنَّا: أَنَّ نَظِيرَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَخْبَارِ أَحْكَامِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بَدَأَ فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَأَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ فِيهِ غَلَطٌ لَا مَحَالَةَ، كَرِوَايَةِ مَنْ رَوَى: أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَمَنْ رَوَى: أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرَ الْمَاءِ، لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا صَحِيحَيْنِ فِي الْأَصْلِ، وَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ بِالْآخَرِ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ مُخَالِفَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ: أَسْقِطْ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا.
وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرِوَايَتِهِ: " أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا "، (لِتَعَارُضِهَا مَعَ رِوَايَةِ) يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ: " أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا، كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، حِينَ عَارَضَ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْخَبَرِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِيهَا إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ، أَوْجَبَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَوْلَى بِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ مِنْ الْآخَرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْخَبَرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ أَصْلًا لِلْإِخْبَارِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ،