وقال تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا النساء:٥٨.
وقال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا النساء:٦٥.
ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مهمته هي بيان الدين، ومع ذلك أمره الله أن يحكم بين الناس بالعدل، لأن معرفة الدين هي الطريق الصحيح إلى الحكم بالعدل، ولم يقتصر الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل شمل غيره من أمته، فقد أمرهم الله أن يحكموا بالعدل حينما يرتضيهم الناس للتحاكم إليهم، وعلى هذا فلا فرق بين الدين والحكم أو السياسة، ومن فرَّق بينهما فلجهله أو لميله إلى العلمانية اللادينية. ولقد كان خلفاء المسلمين هم العُبَّاد، والزهاد، والقواد، والخطباء، والقضاة بين الناس، بل نجد الإسلام يجعل الحكم أوسع مما يتصوره العلمانيون إذ يوجب على جماعة المسلمين مهما كانت قلتهم أن يختاروا لهم أميرا منهم يرجعون إليه عند الاختلاف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) (١).
ومعلوم أن هذا الأمير متدين ملتزم للحكم بما أنزل الله، وعلى طريقة العلمانية لابد أن يكون هذا الأمير غير متدين مستهتر بأحكام الشرع يتم انتخابه بأي طريقة كانت، ولا تسأل بعد ذلك عن الفضل الذي يتميز به عليهم ليكون أميرا لهم إذا لم يكن ملتزما لمنهج الله في حكمه، مراقبا لربه، مخلصا في أداء عمله بالعدل الإلهي.
إنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية نص واحد يثبت التفرقة بين الدين والحكم، لا في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، ولا في أقوال علماء الإسلام، بل نجد أنه لا شرعية لحاكم لا يتخذ الدين منهجا له.
ولا يوجد كذلك نص واحد يثبت أن أحدا من خلفاء المسلمين من الصحابة أصدر حكما على طريقة الفصل بين الدين والحكم، أو اعتذر عن أي حكم أصدره بأن سياسة الحكم اقتضته، حتى وإن كان مخالفا للدين، بل كانت طريقتهم أن كل حكم يخالف الدين يعتبر حكما جاهليا باطلا، وذلك للتلازم التام بين الدين والحكم، واستمر الأمر على ذلك حتى نبغت فتنة دعاة العلمانية الغربية وإذا بضعفاء الإيمان والمخدوعين من المسلمين يتأثرون بتلك الدعايات ويطالبون مجتمعاتهم بالسير في أثر أولئك في الوقت الذي جهلوا فيه – أو تجاهلوا – أن للغرب أسبابه الظاهرة في مناداتهم بالعلمانية وإقصاء الدين الذي مثله طغاة الكنيسة ردحا من الزمن، وكان على الشعوب الغربية كالكابوس الثقيل، وتغافل هؤلاء عن أن الإسلام ليس فيه شيء من ذلك، بل فيه العدل والنور، وإنه صلح عليه حال من قبلنا، وسيصلح به حالنا لو حكمناه واكتفينا به عن الأنظمة الجاهلية البشرية التي هي محل النقص دائما.
(١) رواه أبو داود (٢٦٠٨)، والحاكم (١٦٢٣) والبيهقي (٥/ ٢٥٧) والطبراني في الأوسط (٨٠٩٣) وقال الألباني في ((الصحيحة)) (١٣٢٢) إسناده حسن.