الناحية الثانية: من جانب العدم وذلك بحفظ العقل من كل ما يؤثر فيه بشكل سلبي وهذا يتضح فيما يلي: أـ حرم الإسلام الجناية على العقل بالضرب والترويع، وجعل الدية كاملة على من تسبب في إزالته يقول ابن قدامة ـ رحمه الله ـ: " وفي ذهاب العقل الدية، لا نعلم في هذا خلافا .. " (١).ب ـ النهي عن كل ما يؤثر على وظائفه ومن ذلك: تحريم شرب الخمر وكل مسكر ومفتر قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: " إن السكر حرام في كل شريعة لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدها وأصل المصالح العقل كما أن أصل المفاسد ذهابه فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه" (٢).ج ـ ومن صور محافظة الإسلام على العقل، تحريم ما تنكره العقول وله تأثير عليها كالسحر الذي يذهب العقل كليا أو جزيئا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ((اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر .. )) (٣).
٤ـ العقل مناط التكليف: من القواعد المعلومة في هذا الدين أن العقل مناط التكليف في الإنسان وإذا زال العقل زال التكليف فالتكليف يدور مع العقل وجودا وعدما ومن هنا يتبين أهمية العقل ومكانته في الإسلام إذ بالعقل الذي هو عمدة التكاليف يكون التفضيل لهذا الإنسان كما بين ذلك القرطبي ـ رحمه الله ـ بقوله: "والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء" (٤).ويقول الشاطبي ـ رحمه الله ـ " إن مورد التكليف هو العقل وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا وعد فاقده كالبهيمة المهملة" (٥).
٥ـ العقل له دور فعال في قضية الاجتهاد: من المعلوم أن استنباط الأحكام فيما لا يوجد نص من كتاب أو سنة أو إجماع يرجع إلى الاجتهاد الذي يقوم مداره على العقل حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ حاضا عليه ـ عند فقد النص: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) (٦).فجعل من اجتهاد العقل أساسا للحكم ـ لمن هو أهله ـ عند فقدان النص مع تثبيت الأجر عند الخطأ. (٧).
ثانيا: مكانة العقل في الإسلام:
العقل نعمة عظيمة امتن الله بها على بني آدم وميزهم بها على سائر المخلوقات غير أن هذا التكريم لا يتحقق إلا إذا كان العقل مهتديا بوحي الله محكوما بشرع الله وبذلك ينجو صاحبه من الضلال ويهتدي إلى الحق كما قال تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ آل عمران:١٠١
أما إذا كان العقل مقدما على وحي الله حاكما على شرع الله فقد ضل صاحبه سواء السبيل كما قال تعالى فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ القصص:٥٠
(١) ((من العقيدة إلى الثورة)) (٢/ ٦٠٢).
(٢) انظر ((التراث والتجديد)) " الكتاب كله "، ((دراسات إسلامية)) " الكتاب كله".
(٣) انظر: حول الموضوع كتاب ((التفسير الماركسي للإسلام)) محمد عمارة.
(٤) انظر: مفهوم النص: ((دراسة في علوم القرآن)) (٣٨ – ٦٥).
(٥) انظر ((مجلة قضايا إسلامية معاصرة)) – (عدد ١٩ ص ٩٠ - ١٠٠).
(٦) انظر كثيرا من النصوص في هذا المجال في كتاب: ((العصرانيون)) (ص٢٧٤).
(٧) ((التراث والتجديد)) (ص٦٩).