فالذي نشاهده اليوم في ظل هذا النظام الجديد, والتبشير بـ "العولمة" دولا تفككت كما يحدث الآن في أفغانستان والصومال والكونغو الديمقراطية ومذابح ضد الإنسان ارتكبت دون تحقيق دولي كما حدث في البوسنة والهرسك – في قلب أوروبا – ويحدث اليوم في كوسوفو, وحدث في رواندا حيث أبيد أكثر من نصف مليون مواطن دون أن تحرك القوى المهيمنة ساكنا, بل إن تدخلات الشرعية الدولية في بعض المناطق أدت إلى نتائج عكسية, ففي البوسنة سقطت سربنيتشا وأباد الصرب أكثر من أربعة آلاف مسلم وهي تحت الحماية الدولية ورجال القبعات الزرقاء, وفي الصومال تدخلت الأمم المتحدة فكانت الكارثة, زادت الصراعات وزاد القتال, حتى المحاكمات لمجرمي الحرب التي صدرت بها قرارات من مجلس الأمن الدولي لم تنفذ سواء ضد مجرمي الحرب في البوسنة أو في رواندا, وحتى المواثيق والمعاهدات الدولية لم تحترم ولم تنفذ, مما جعل المنبهرين بالنظام العالمي الجديد وبإفرازاته السياسية والاقتصادية والثقافية يتضجرون من هذا النظام وتناقضاته.
فالنظام الجديد الذي حاول - سياسيا- عولمة "ديمقراطية" ومنظوره الخاص لـ "حقوق الإنسان" وفهمه لـ "الحرية" تجاهل تماماً وضعية الشعوب الأخرى وظروفها ومتطلباتها, وكان النتاج عولمة الفقر إضافة إلى عولمة السوق, واستقطاب جديد من الشمال الغني المسيطر للجنوب الفقير, وتبني القوى الدولية للقضايا التي تريد ما دامت مصلحتها تقتضي ذلك, وتتجاهل قضايا أساسية لعدم وجود مصلحة لها.
وإذا كان النظام العالمي الجديد والسياسات التي تحكمت في تسيير دفة العالم والهيمنة عليه هي التي أفرزت ظاهرة "العولمة" فإن هذا النظام وآلياته يسير من قبل دول ومؤسسات وهيئات دولية تتحكم في النظام الاقتصادي في العالم, فآلية النظام الاقتصادية مكنت الدول الغربية القوية مادياً وتكنولوجياً من الضغط على دول العالم الثالث, لتفتح اقتصادياتها أمام رأس المال والمنتجات الغربية كما مكنتها في الأساس من "خلخلة" العوائق القانونية والمالية التي تضعها الدول - في الجنوب - أمام منتجات الشمال ... الأمر الذي جعل الدول الغنية تقوض الأسس التي تقوم عليها أركان الدول في العالم الثالث الفقير, وجاءت اتفاقيات الجات في ١٩٩٤م لتتحكم منظمة التجارة العالمية, في الاقتصاد العالمي, بتحكمها في ٠٩% من حركة التجارة العالمية, والدول في العالم الثالث ملزمة بالدخول في اتفاقيات الجات والتسليم بها, وفتح أسواقها أمام منتجات وسلع الدول الغنية, الأمر الذي يحطم اقتصاديات هذه الدول.
فالنظام العالمي الجديد يسعى بكل قوة لتنفيذ مصالح القوة العالمية الدولية ومصالح الشركات متعددة الجنسيات. وإن أي سعي في ظل "العولمة الاقتصادية" لتحقيق التنمية الذاتية أو المعتمدة على النفس تواجه بعراقيل من صنع ووضع القوى وعوامل خارجية وهي بالقطع ستكون معادية لأي جهد وطني, فبلدان "المركز" التي تدير "عولمة الاقتصاد" تجني المكاسب الطائلة بفضل تبعية "بلدان التخوم" لها سياسياً واقتصادياً وإعلامياً بل ثقافياً (١).
المصدر:العولمة لسليمان الخراشي
(١) انظر ((منهج الفن الإسلامي)) (ص٦٦) , و ((مذاهب الأدب الغربي)) (ص٥٢).