لما قَالُوا هَذَا الْكَلَام الَّذِي هُوَ الْحق غير عَالمين بِصِحَّتِهِ أنكر تَعَالَى عَلَيْهِم أَن يقولوه متخرصين وبرهان هَذَا قَول الله تَعَالَى أثر هَذِه الْآيَة نَفسهَا {أم آتَيْنَاهُم كتابا من قبله فهم بِهِ مستمسكون بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} فَبين تَعَالَى أَنهم قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم من كتاب أَتَاهُم وَأَن الَّذين قَالُوا معتقدين لَهُ إِنَّمَا هُوَ أَنهم اهتدوا بِاتِّبَاع آثَار آبَائِهِم فَهَذَا هُوَ الَّذِي عقدوا عَلَيْهِ وَهَذَا الَّذِي أنكر تَعَالَى عَلَيْهِم لَا قَوْلهم لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم فَبَطل أَن يكون لَهُم فِي الْآيَة مُتَعَلق أصلا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل {وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن سكتوا هَا هُنَا لم يهنهم التمويه وَقُلْنَا لَهُم صلوا الْقِرَاءَة وَأَتمُّوا معنى الْآيَة فَإِن بعد قَوْله تَعَالَى {فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} مُتَّصِلا بِهِ {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فآخر الْآيَة يبين أَولهَا وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أَيْضا لم يكذبهم فِيمَا قَالُوهُ من ذَلِك بل حكى عز وَجل أَنهم قَالُوا {لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء} وَلم يكذبهم فِي ذَلِك أصلا بل حكى هَذَا القَوْل عَنْهُم كَمَا حكى تَعَالَى أَيْضا قَوْلهم {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} وَلَو أنكر عزو جلّ قَوْلهم ذَلِك لأكذبهم فَإذْ لم يكذبهم فَلَقَد صدقهم فِي ذَلِك وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل {سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن انتم إِلَّا تخرصون قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ قل تَعَالَوْا اتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّمَا تلونا جَمِيع الْآيَات على نسقها فِي الْقُرْآن واتصالها خوف أَن يعترضوا بِالْآيَةِ ويسكتوا عِنْد قَوْله يخرصون فكثيراً مَا احتجنا إِلَى بَيَان مثل هَذَا من الِاقْتِصَار على بعض الْآيَة دون بَعْضهَا من تمويه من لَا يَتَّقِي الله عز وَجل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة من أعظم حجَّة على الْقَدَرِيَّة لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يُنكر عَلَيْهِم قَوْلهم {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} وَلَو أنكرهُ لكذبهم فِيهِ وَإِنَّمَا أنكر تَعَالَى قَوْلهم ذَلِك بِغَيْر علم وَإِن وافقوا الصدْق وَالْحق كَمَا قدمنَا آنِفا وَقد بَين تَعَالَى أَنه إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِم ذَلِك بقوله عز وَجل فِي الْآيَة نَفسهَا {إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن انتم إِلَّا تخرصون} ثمَّ لم يدعنا تَعَالَى فِي لبس من ذَلِك بل وَاتبع ذَلِك نسقاً وَاحِدًا بِأَن قَالَ {فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} نصدقهم عز وَجل فِي قَوْلهم إِنَّه لَو شَاءَ مَا أشركوا وَلَا آباؤهم وَلَا حرمُوا مَا حرمُوا وَأخْبر تَعَالَى أَنه لَو شَاءَ لهداهم فاهتدوا وَبَين تَعَالَى أَن لَهُ الْحجَّة عَلَيْهِم فِي ذَلِك وَلَا حجَّة لأحد عَلَيْهِ تَعَالَى وَأنكر عز وَجل أَن اخْرُجُوا ذَلِك فَخرج الْعذر لأَنْفُسِهِمْ أَو فَخرج الِاحْتِجَاج على الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا تفعل الْمُعْتَزلَة ثمَّ بَين تَعَالَى أَنه إِنَّمَا أنكر أَيْضا تكذيبهم رسله