. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نيل الأوطار
وَفِي سُنَّة رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَلَمْ يَخُصّ اللَّه وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُسْلِمُونَ بِأَجْمَعِهِمْ سَفَرًا مِنْ سَفَر.
ثُمَّ اُحْتُجَّ عَلَى تَرْك الْقَصْر فِيمَا دُون الْمِيل بِأَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ خَرَجَ إلَى الْبَقِيعِ لِدَفْنِ الْمَوْتَى وَخَرَجَ إلَى الْفَضَاءِ لِلْغَائِطِ وَالنَّاس مَعَهُ فَلَمْ يَقْصُرْ وَلَا أَفْطَرَ. وَذَكَرَ فِي الْمُحَلَّى مِنْ أَقْوَال الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة وَالْفُقَهَاء فِي تَقْدِير مَسَافَة الْقَصْر أَقْوَالًا كَثِيرَة وَلَمْ يُحِطْ بِهَا غَيْره وَاسْتَدَلَّ لَهَا وَرَدَّ تِلْكَ الِاسْتِدْلَالَاتِ. وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُور فِي الْبَابِ الظَّاهِرِيَّةُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ. فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ أَقَلّ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثَلَاثَة أَمْيَال.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ أَصَحّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَأَصْرَحه، وَقَدْ حَمَلَهُ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد الْمَسَافَة الَّتِي يُبْتَدَأُ مِنْهَا الْقَصْر لَا غَايَة السَّفَر. قَالَ: وَلَا يَخْفَى بَعَدَ هَذَا الْحَمْل مَعَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ ذَكَر فِي رِوَايَته مِنْ هَذَا الْوَجْه أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَزِيدَ رَاوِيه عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلْت أَنَسًا عَنْ قَصْر الصَّلَاة وَكُنْت أَخْرُجُ إلَى الْكُوفَةِ يَعْنِي مِنْ الْبَصْرَةِ فَأُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى أَرْجِع، فَقَالَ أَنَسٌ، فَذَكَر الْحَدِيثَ.
قَالَ: فَظَهَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جَوَاز الْقَصْر فِي السَّفَر لَا عَنْ الْمَوْضِع الَّذِي يَبْتَدِئُ الْقَصْر مِنْهُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُمَا وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاءُ أَصْحَاب الْحَدِيثِ وَغَيْرهمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز إلَّا فِي مَسِيرَة مَرْحَلَتَيْنِ وَهُمَا ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّة كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَقْصُر فِي أَقَلّ مِنْ ثَلَاثِ مَرَاحِل
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ. وَفِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَسَافَة الْقَصْر أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا. وَحَكَى فِي الْبَحْرِ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّفْسِ الزَّكِيَّةِ وَالدَّاعِي وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْكَرْخِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَات عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَسَافَة الْقَصْر ثَلَاثَة أَيَّام بِسَيْرِ الْإِبِل وَالْأَقْدَام.
وَذَهَبَ الْبَاقِرُ وَالصَّادِقُ وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى وَالْقَاسِمُ وَالْهَادِي إلَى أَنَّ مَسَافَته بَرِيد فَصَاعِدًا. وَقَالَ أَنَسٌ وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ: إنَّ مَسَافَته يَوْم وَلَيْلَة. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اخْتِيَاره أَنَّ أَقَلّ مَسَافَة الْقَصْر يَوْم وَلَيْلَة يَعْنِي قَوْلَهُ فِي صَحِيحه: وَسَمَّى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّفَر يَوْمًا وَلَيْلَة بَعَدَ قَوْله: بَابٌ فِي كَمْ يَقْصُر الصَّلَاة.
وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقْوَال مَأْخُوذ بَعْضهَا مِنْ قَصْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسْفَاره، وَبَعْضهَا مِنْ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» عِنْدَ الْجَمَاعَة إلَّا النَّسَائِيَّ. وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وَفِي رِوَايَة لِأَبِي دَاوُد «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ بَرِيدًا» وَلَا حُجَّة فِي جَمِيع ذَلِكَ، أَمَّا قَصْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسْفَاره فَلِعَدَمِ اسْتِلْزَام فِعْله لِعَدَمِ الْجَوَاز فِيمَا دُون الْمَسَافَة الَّتِي قَصَرَ فِيهَا.
وَأَمَّا نَهْي الْمَرْأَة عَنْ أَنْ تُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ فَغَايَة مَا فِيهِ إطْلَاق اسْم السَّفَر عَلَى مَسِيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَهُوَ غَيْر مُنَافٍ لِلْقَصْرِ فِيمَا دُونهَا، وَكَذَلِكَ نَهْيهَا عَنْ سَفَر الْيَوْم بِدُونِ مَحْرَم، وَالْبَرِيدُ لَا يُنَافِي