. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نيل الأوطار
قَالَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَهَدَانَا لَهُ» فَإِنَّ التَّقْدِير: فَرَضَ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْنَا، فَضَلُّوا وَهُدِينَا.
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَة سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ: " كُتِبَ عَلَيْنَا " وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّة مَنْ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّهَا فَرْض عَيْن بِأَجْوِبَةٍ: إمَّا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَمَاعَةِ. وَإِمَّا عَنْ سَائِر الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَمِلَة عَلَى الْوَعِيد، فَبِصَرْفِهَا إلَى مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَة تَهَاوُنًا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّد، وَلَا نِزَاع فِي أَنَّ التَّارِك لَهَا تَهَاوُنَا مُسْتَحِقّ لِلْوَعِيدِ الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا النِّزَاع فِيمَنْ تَرَكَهَا غَيْر مُتَهَاوِن
وَأَمَّا عَنْ الْآيَة فَمَا يَقْضِي بِهِ آخِرهَا، أَعْنِي قَوْلَهُ: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} الجمعة: ٩ . مِنْ عَدَم فَرْضِيَّة الْعَيْن. وَأَمَّا عَنْ حَدِيثِ طَارِقٍ فَمَا قِيلَ فِيهِ مِنْ الْإِرْسَال وَسَيَأْتِي. وَأَمَّا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآخَر فَبِمَنْعِ اسْتِلْزَام افْتِرَاضِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا افْتِرَاضه عَلَيْنَا. وَأَيْضًا لَيْسَ فِيهِ افْتِرَاض صَلَاة الْجُمُعَة عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَيْنَا.
وَقَدْ رُدَّتْ هَذِهِ الْأَجْوِبَة بِرُدُودٍ. وَالْحَقّ أَنَّ الْجُمُعَة مِنْ فَرَائِض الْأَعْيَان عَلَى سَامِع النِّدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ إلَّا حَدِيثَ طَارِقٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ الْآتِيَيْنِ لَكَانَا مِمَّا تَقُوم بِهِ الْحُجَّة عَلَى الْخَصْم. وَالِاعْتِذَار عَنْ حَدِيثِ طَارِقٍ بِالْإِرْسَالِ سَتَعْرِفُ انْدِفَاعَهُ. وَكَذَلِكَ الِاعْتِذَار بِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ صَغِيرَا لَا يَتَّسِع هُوَ وَرَحَبَته لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَتْ تُقَام الْجُمُعَة فِي عَهْده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرِهِ إلَّا فِي مَسْجِده، وَقَبَائِل الْعَرَبِ كَانُوا مُقِيمِينَ فِي نَوَاحِي الْمَدِينَة مُسْلِمِينَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْحُضُورِ مَدْفُوع بِأَنَّ تَخَلُّف الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْحُضُور بَعَدَ أَمْر اللَّه تَعَالَى بِهِ وَأَمْر رَسُوله وَالتَّوَعُّد الشَّدِيد لِمَنْ لَمْ يَحْضُر لَا يَكُون حُجَّة إلَّا عَلَى فَرْض تَقْرِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَلَى تَخَلُّفهمْ وَاخْتِصَاص الْأَوَامِر بِمَنْ حَضَرَ جُمُعَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكِلَاهُمَا بَاطِل.
أَمَّا الْأَوَّل: فَلَا يَصِحّ نِسْبَة التَّقْرِير إلَيْهِ بَعَدَ هَمّه بِإِحْرَاقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجُمُعَة وَإِخْبَاره بِالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبهمْ وَجَعْلهَا كَقُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَعَ كَوْنه قَصْرًا لِلْخِطَابَاتِ الْعَامَّة بِدُونِ بُرْهَان، تَرُدّهُ أَيْضًا تِلْكَ التَّوَعُّدَات لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَوَعُّدِ الْحَاضِرِينَ وَلِتَصْرِيحِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيد لِلْمُتَخَلِّفِينَ، وَضِيق مَسْجِده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدُلّ عَلَى عَدَم الْفَرْضِيَّة إلَّا عَلَى فَرْض أَنَّ الطَّلَبَ مَقْصُور عَلَى مِقْدَار مَا يَتَّسِع لَهُ مِنْ النَّاس أَوْ عَدَم إمْكَان إقَامَتهَا فِي الْبِقَاع الَّتِي خَارِجه وَفِي سَائِر الْبِقَاع، وَكِلَاهُمَا بَاطِل.
أَمَّا الْأَوَّل فَظَاهِر، وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِإِمْكَانِ إقَامَتهَا فِي تِلْكَ الْبِقَاع عَقْلًا وَشَرْعًا. لَا يُقَال عَدَم أَمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِقَامَتِهَا فِي غَيْر مَسْجِده يَدُلّ عَلَى عَدَم الْوُجُوبِ. لِأَنَّا نَقُول: الطَّلَبُ الْعَامّ يَقْتَضِي وُجُوبَ صَلَاة الْجُمُعَة عَلَى كُلّ فَرْد مِنْ أَفْرَاد الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَا يُمْكِنهُ إقَامَتهَا فِي مَسْجِده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُمْكِنهُ الْوَفَاءُ بِمَا طَلَبه الشَّارِعُ إلَّا بِإِقَامَتِهَا فِي غَيْره، وَمَا لَا يَتِمّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِب كَوُجُوبِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول.