. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نيل الأوطار
أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: «أَفْتِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي رَجُلٍ سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَلَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، قَالَ: يَنْصَرِفُ ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يَعْلَمَ كَمْ صَلَّى، فَإِنَّمَا ذَلِكَ الْوَسْوَاسُ يَعْرِضُ فَيُسَهِّيهِ عَنْ صَلَاتِهِ» وَفِي إسْنَادِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ الْجَزَرِيُّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ كَبَقِيَّةٍ فِي الشَّامِيِّينَ يَرْوِي عَنْ الْمَجَاهِيلِ، وَفِي إسْنَادِهِ أَيْضًا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَالتَّحَرِّي إمَّا مُطْلَقًا أَوْ لِمَنْ كَانَ مُبْتَلًى بِالشَّكِّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ لِمَنْ شَكَّ بِأَنْ يَتَحَرَّى الصَّوَابَ. وَأَجَابَ عَنْهُمْ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ بِأَنَّ التَّحَرِّيَ هُوَ الْقَصْدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} الجن: ١٤ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: فَلْيَقْصِدْ الصَّوَابَ فَيَعْمَلُ بِهِ، وَقَصْدُ الصَّوَابَ هُوَ مَا بَيَّنَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ التَّحَرِّي وَالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ شَيْئًا وَاحِدًا أَمْ لَا.
وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّ التَّحَرِّيَ: التَّعَمُّدُ وَطَلَبُ مَا هُوَ أَحْرَى بِالِاسْتِعْمَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ لَا يُخَالِفُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الشَّكِّ وَهُوَ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ، وَمَنْ شَكَّ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ لَهُ أَحَدُ الطَّرِيقَيْنِ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ صَلَّى أَرْبَعًا مَثَلًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ تَفْسِيرَ الشَّكِّ بِمُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ إنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ طَارِئٌ لِلْأُصُولِيِّينَ.
وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ كُلُّهُ يُسَمَّى شَكًّا، سَوَاءٌ الْمُسْتَوِي وَالرَّاجِحُ وَالْمَرْجُوحُ، وَالْحَدِيثُ يُحْمَلَ عَلَى اللُّغَةِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ عُرْفِيَّةٌ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَطْرَأُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الِاصْطِلَاحِ انْتَهَى.
وَاَلَّذِي يَلُوحُ لِي أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ وَتَحَرِّي الصَّوَابِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ فِي اللُّغَةِ كَمَا عَرَفْتَ هُوَ طَلَبُ مَا هُوَ أَحْرَى إلَى الصَّوَابِ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ عِنْدَ عُرُوضِ الشَّكِّ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْخُرُوجُ بِالتَّحَرِّي عَنْ دَائِرَةِ الشَّكِّ لُغَةً وَلَا يَكُونُ إلَّا بِالِاسْتِيقَانِ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مِنْ الصَّلَاةِ كَذَا رَكَعَاتٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ شَرَطَ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ عَدَمَ الدِّرَايَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَهَذَا التَّحَرِّي قَدْ حَصَلَتْ لَهُ الدِّرَايَةُ، وَأُمِرَ الشَّاكُّ بِالْبِنَاءِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَمَنْ بَلَغَ بِهِ تَحَرِّيهِ إلَى الْيَقِينِ قَدْ بَنَى عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ التَّحَرِّيَ الْمَذْكُورَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ، وَقَدْ أَوْقَعَ النَّاسَ ظَنُّ التَّعَارُض بَيْن هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي مَضَايِقَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُبْتَدَإِ وَالْمُبْتَلَى وَالرُّكْنِ وَالرَّكْعَةِ. قَوْلُهُ: (فِي حَدِيث الْبَاب قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ وَبَيَانُ مَا هُوَ الْحَقُّ قَوْلُهُ: (فَلْيُصَلِّ حَتَّى يَشُكَّ فِي