وأنا أرى أن خير كتاب يمثل هذا الطور عند الأشعري - فيما بين يدينا من كتب - هو كتاب (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) ، ذلك أن الأشعري يهاجم فيه المعتزلة هجوماً شديداً، ويدخل معهم في مناقشات جدلية تصل إلى حد التعقيد أحياناً، فهو بهذا يتخلص من مذهب الاعتزال ويرد عليه ويفنده، ومع هذا نجد أنه لا يذكر الإمام أحمد ولا يشيد بمذهبه كما فعل في الإبانة، كما أنه لم يتعرض لذكر كثير من الصفات التي يؤمن بها السلف كالوجه والاستواء، ويتكلم عن نظرية الكسب بإسهاب.
فلذا أمكن القول بأنه كان في هذا الطور وسطاً بين السلف كالإمام أحمد بن حنبل والمعتزلة، وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك في قوله: "وأبو الحسن لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب ومال إلى أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها"١.
ويلاحظ أن ابن تيمية هنا ذكر طورين للأشعري دون أن يفصل بينهما ويوضح، وإن كان يفرق بين طريقة ابن كلاب ومذهب الإمام أحمد، ولكني لم أقف على تحديد للمدة التي بقاها الأشعري على طريقة ابن كلاب بعد البحث والتحري، ولكن الثابت عنه أنه انتقل إلى مذهبه، وقد أوضح ذلك وفصله تلميذه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقال في الطبقة الثالثة من كتابه طبقات الفقهاء عند الشافعية "ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال:
أولها: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
والحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبعة وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، وتأويل الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق، ونحو ذلك.
والحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف، وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخراً"٢.
ويقول المقريزي: "إن الأشعري خرج على الاعتزال وأخذ في الرد عليهم وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب القطان وبنى على قواعده"٣.
١ انظر: الموافقة ٢/١٠ , ١١.
٢ انظر: كتاب طبقات الفقهاء عند الشافعية ورقة ٢٦/ ب.
٣ انظر: الخطط للمقريزي ٣/٣٠٨.