ولأنه الأصل في الأهلي أن يذكى، ولا يفدى بالجزاء، فلو جاز إذا توحش أن يتغير عن حكم أصله في الذكاة، فيصير بعقره بعد أن كانت في حلقه ولبته لوجب أن يتغير حكمه في الجزاء، فيفديه المحرم بعد أن لم يكن مفدياً، أو لصار الحمار الأهلي إذا توحش مأكولاً، فلما بقي على أصله في سقوط الجزاء وتحريم الأكل وجب بقاؤه على أصله في الذكاة.
ودليلنا: ما رواه عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده رافع بن خديج بعيراً ند، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لهذه الإبل أو قال: للنعم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا" فكان في هذا الحديث دليلان:
أحدهما: أن قوله: "فحبسه" أي: قتله، لما روي في خبر آخر: فحبسه الله أي: أماته.
والثاني: قوله: "فاصنعوا هكذا". ولو لم يحل بالرمي لم يأمر به.
لأنه حيوان ممتنع، فجاز أن يكون عقره ذكاته، كالوحش. ولأن ما صح به ذكاة الوحش جاز أن يصح به ذكاة الأهلي كالذبح. ولأنه اعتبر في ذكاة الأهل حكم أصله إذا توحش، ولا يكون إلا في الحلق واللبة لوجب أن يعتبر في ذكاة الوحش حكم أصله إذا تأنس فيكون بعقره في غير الحلق واللبة، وفي بطلان هذا في الوحش إذا تأنس دليل على بطلانه في الإنس إذا توحش؛ اعتباراً بالامتناع والقدرة.
فأما الخبر فوارد في المقدور عليه على ما سنورده في سببه.
وأما الجواب عن استدلاله بالجزاء والأكل مع فساده بالوحش إذا تأنس، فهو أنهما يخالفان القدرة والامتناع في الزكاة؛ لأنهما حكمان لازمان لا ينتقلان، والقدرة والامتناع يتعاقبان، فيصير مقدوراً عليه بعد أن كان ممتنعاً، وممتنعا بعد أن كان مقدوراً عليه، ولا يصير مأكولاً بعد أن كان غير مأكول، ولا غير مأكول بعد أن كان مأكولاً، فافترقا.
مسألة:
قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى: " وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنُهُرُ الدّمِ وذكر اِسمِ اللهِ عليه فكُلوهُ إلّا ما كان مِن سِنِّ أوْ ظفر؛ لأن السِّنّ عِظم مِن الإنسان والظّفر مدًى الحبشِ وثبت عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه جعل ذكاة الإنسي مِثلُ ذكاة الوَحشيِ إذاً اِمتنع. قالُ: ولمّا كان الوَحشيِ يحِل بِالعُقرِ ما كان مُمتنِعا فإذاً قدر عليه لم يحِل إلّا بِما يحِل بِهِ الإنسي كان كذلِك الإنسي إذاً صار كالوَحشيِ مُمتنِعا حِلّ بِما يحِل بِهِ الوَحشيِ".
قال في الحاوي: اعلم أن الذكاة تجوز بالحديد، وبما صار في اللحم مور الحديد