مسألة:
قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمِنْ أَحَرَزَ صِيدَا فَأَفْلَتَ مِنْه فَصَادَّهُ غَيْرَه فَهُوَ كالأول".
قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا ملك صيداً بالاصطياد أو بابتياع، وأفلت منه لم يزد ملكه عنه سواء طال مكثه عنه أو قصر، وسواء بعد عنه في البر أو قرب من المصر، وسواء كان من الطير أو الدواب.
وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: إن بعد في البر مع قرب المكث زال ملكه عنه؛ استدلالاً بأن الإمساك سبب الملك، فإذا زال بالانفلات زال به الملك، كما لو ملك ماء باستقائه من نهر، فانصب منه في النهر، زال ملكه عنه، ولأنه لو بقي على ملكه بعد انفلاته تحرم صيد البر لجواز اختلاطه بمنفلت فحرم، وفي إجماعهم على إباحة صياه دليل على أن المنفلت عائد في الإباحة إلى أصله.
ودليلنا هو أنه يملك الصيد بالابتياع، كما يملكه بالاصطياد، فلما لم يزل به الملك عما إتباعه بالانفلات لم يزل به الملك عما صاده؛ ولأنه يملك عبده بالسبي؛ ولا يزول ملكه عنه بالرجوع إلى دار الحرب، كذلك الصيد إذا ملكه الاصطياد لم يزول ملكه عنه بالانفلات؛ ولأنه لو وسم الصيد قبل انفلاته لم يزل ملكه عنه بعل وسمه فوجب أن لا يزول به قبل وسمه؛ لأن الوسم لما لم يؤثر في ثبوت الملك لم يؤثر في زواله.
وأما الجواب عن استدلاله بأن زوال سبب الملك موجب لزوال الملك كالماء إذا عاد إلى النهر فهو بطلانه بالعبد المسبي إذا عاد آبقاً إلى دار الحرب زال سبب ملكه، ولم نوجب زوال ملكه، كذلك الصيد.
فأما الماء فقد اختلف أصحابنا في حكمه إذا عاد إلى النهر على وجهين:
أحدهما: أنه على ملكه، وإنما اختلط بما لم يتميز عنه، فصار مستهلكاً.
والثاني: أن ملكه قد زال بمثله المقدور عليه، فخالف حكم الصيد الذي لا يقدر عليه. وأما الجواب عن استدلاله بأن صيد البر على الإباحة بعد انفلاته، فهو أن اختلاط الحلال بالحرام إذا لم يمكن الاحتراز منه يوجب تغليباً الإباحة على التحريم، ألا ترى أن ماء النهر إذا أريق فيه خمر أو بول لم يحرم لتعذر الاحتراز منه؛ ولو اختلطت أخته بنساء بلد لم يحرم عليه أن يتزوج منهن من شاء، ولو اختلطت بعدد من نساء بلد حرمن كلهن؛ لأنه لا يقدر على الاحتراز منها في نساء البلد ويقدر على الاحتراز منها في العدد المحصور من نساء البلد، كذلك حكم الصيد المنفلت إذا اختلطت بصيد البر لم يكن الاحتراز، فحل، وإذا اختلط بعدد محصور من عدة صيود حرم.