فجعل إحدى الذكاتين نائبة عنهما، أو قائمة مقامهما، كما يقال: مال زيد مالي ومالي مال زيد. يريد أن أحد المالين ينوبعن الآخر، ويقول مقامه.
فإن قيل: إنما أراد به التشبيه دون النيابة، ويكون معناه: ذكاة الجنين كذكاة أمه؛ لأن قدم الجنين على الأم، فصار تشبيهاً بالأمر، ولو أراد النيابة لقدم الأم على الجنين فقال: ذكاة الأم ذكاة جنينها ـ ففيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن اسم الجنين منطلق عليه، إذا كان مستجناً في بطن أمه، فيزول عنه الاسم إذا انفصل عنها، فيسمى ولداً. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} النجم: 32. وهو في بطن أمه لا يقدر على ذكاته، فبطل أن يحمل على التشبيه، ووجب حمله على النيابة.
والثاني: أنه لو أراد التشبيه دون النيابة، لساوى الأم غيرها، ولم يكن لتخصيص الأم فائدة، فوجب أن يحمل على النيابة دون التشبيه، ليصير لتخصيص الأم تأثير.
والثالث: لو أراد التشبيه لنصب ذكاة أمه لحذف كاف التشبيه، والرواية مرفوعة: "ذكاة أمه" فثبت أنه أراد النيابة دون التشبيه.
فإن قيل: فقد روي بالنصب: "ذكاة الجنين ذكاة أمه".
قيل: هذه الرواية غير صحيحة، ولو سلمت لكانت محمولة على نصبها بحذف "يا" النيابة دون كاف التشبيه لما قدمناه، ولأنه إثبات الذكاة لم يجز أن يحمل على نفيها، لأنهما ضدان، ولا نفعل النفي من الإثبات كما لا نفعل الإثبات من النفي، ويكون معناه: ذكاة الجنين بذكاة أمه، ولو احتمل الأمرين لكانتا مستعملتين، فتستعمل الرواية المرفوعة على النيابة إذا خرج ميتاً، وتستعمل الرواية المنصوبة على التشبيه: إذا خرج حياً، فيكون أولى ممن استعمل إحداهما، وأسقط الأخرى.
ويدل عليه أيضاً نص لا يحتمل هذا التأويل، وهو ما رواه يحيى بن سعيد القطان عن مجالد عن أبي الوداني عن أبي سعيد الخدري، قال: قلت: يا رسول الله ننحر الناقة وتذبح البقرة أو الشاة في بطنها جنين ميت أنلقيه أم نأكله؟ فقال: "كلوه إن شئتم، فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه" ولأنه إجماع الصحابة. روي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وقال عبد الرحمن بن كعب بن ملك: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". وما انعقد به إجماعهم لم يجز فيه خلافهم.
ومن الاعتبار هو أن الجنين يغتذى بغذاء أمه، فلما كانت حياته بحياتها جاز أن تكون ذكاته بذكاتها كالأعضاء.
فإن قيل: فأعضاؤها لا تعتبر ذكاتها بعدها، وأنتم تعتبرون ذكاة الجنين إذا خرج حياً، فدل على افتراقهما.