لزم فيه تعجيل القبض ليصير المعقود عليه معيناً، ولما كان ما سوى الذهب والورق من البر والشعير وغيرهما يتعين بالعقد لم يلزم فيه تعجيل القبض؛ لأن المعقود عليه قد صار معيناً.
والدلالة عليه: حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يداً بيد كيف شئتم". فشرط في بيع ذلك كله تعجيل القبض بقوله إلا يداً بيد. فإن قيل: فقوله يداً بيد نفياً لدخول الأجل فيه وأن يكون العقد عليه بالنقد وليس بشرط في تعجيل القبض. قيل: يبطل هذا التأويل بثلاثة أشياء.
أحدهما: أنه جمع في الخبر بين الذهب والورق وبين البر والشعير فلما كان قوله "إلا يداً بيد" محمولاً في الذهب والورق على تعجيل القبض وجب أن يكون في البر والشعير مثله لأنها جملة معطوف عليها حكم.
والثاني: أن نفي الأجل مستفاد من هذا الحديث بقوله إلا عيناً بعين، لأن المؤجل لا يكون عيناً إذ العين لا يدخل فيها الأجل وإنما يكون عيناً بعين، لأن المؤجل لا يكون عيناً إذ العين لا يدخل فيها الأجل وإنما يكون عيناً بدين. فوجب أن يكون قوله إلا يداً بيد محمولاً على غير نفي الأجل وهو تعجيل القبض ليكون الخبر مقيداً لحكمين متغايرين، واختلاف اللفظين محمولاً على اختلاف معنيين.
والثالث: أن قوله إلا يداً بيد مستعمل في اللغة على تعجيل القبض لأجل أن القبض يكون باليد وليس بمستعمل في نفي الأجل إلا على وجه المجاز فكان حمل الكلمة على حقيقتها في اللغة أولى من حملها على المجاز. ومما يدل على أصل هذه المسألة ونفي هذا التأويل أيضاً: ما استدل به الشافعي من حديث عمر رواه مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والورق بالورق رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء.
قال الشافعي فاحتمل قوله: "إلا هاء وهاء" معنيين:
أحدهما: أن يعطي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء، واحتمل ألا يتفرق المتبايعان عن مكانهما حتى يتقابضا، فلما روي أن مالك بن أوس بن الحدثان صارف طلحة بن عبيد الله بمائة دينار باعها عليه بدراهم فقال طلحة لمالك: حتى يأتي خازني من الغابة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع فقال عمر لمالك: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ورقك أو يرد عليك ذهبك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالورق رباً إلا هاء وهاء.
دل على أن المراد بهذا الحديث من المعنيين المحتملين التقابض قبل الافتراق لأمرين:
أحدهما: أن راوي الحديث إذا فسره على أحد معنيين كان محمولاً عليه.